تاريخ الأفكار.. توثيق مطلوب

04:22 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. مصطفى الفقي

تعود المؤرخون في دراستهم للأحداث، أن يركزوا على الشخوص والوقائع دون أن يلتفتوا إلى ما هو أهم، وأعني به تطور الأفكار، وذلك هو التأريخ الحقيقي لمسيرة الإنسان؛ إذ لا يتوقف الأمر عند سرد ما جرى؛ فالأهم هو ما طرأ على العقل الإنساني من تغييرات وما أصابه من تطورات ، فالمعيار الفكري هو الفيصل في دراسة قضية التقدم والتخلف، ولعلنا نلاحظ أن دولاً كثيرة يتسع فيها العمران وقد يتقدم الاقتصاد وتزدهر بعض مظاهر العصر على السطح ، ولكن يظل العقل على حالته جامداً ، وهنا يصعب الحديث عن التقدم الحقيقي وفقاً لمعايير مبتورة .فلقد كان الأصل ولا يزال هو أننا نتحدث عن تطور سطحي لا يصل إلى الجوهر فإذا أخذنا بلدًا عربياً مثل مصر بملايينها المئة، فسوف نجد أن مشكلتها الحقيقية تكمن في إعادة جدولة عقل المصري وطريقة تفكيره وأولويات حياته وتحديد درجة احترامه للعقل والاحتكام إليه، وينسحب الأمر نفسه، على معظم الدول في عالمنا المعاصر فما لم يتواكب التطور المادي مع نقلات فكرية فإننا نكون أمام عجز حقيقي . وهنا يجب أن نرصد الملاحظات الآتية:
أولاً: إن التطور الفكري يختلف عن التقدم التكنولوجي؛ فالتكنولوجيا هي توظيف العلم في خدمة الصناعة، بينما التطور الفكري هو عملية توظيف العقل في صياغة رؤية جديدة نحو مستقبل أفضل، ولقد عكف الكثيرون في دراسات مستفيضة لتحليل العلاقة بين الأمرين.
ولا يختلف اثنان في تأكيد أن العقل هو قاطرة المجتمعات السويّة والدول الناهضة، ولكن مكونات ذلك العقل هي الإشكالية الكبرى من حيث ارتباط ذلك بالتعليم والثقافة والوازع الديني والضمير الوطني وكلها كلمات كبيرة ولكن معانيها أكبر، من هنا فإن المعضلة الحقيقية أننا نتعامل مع مفهوم النهضة من منطلق مبتور لا يمس الأفكار المؤثرة في حياة الناس والموروثة عبر الأجيال.
ثانياً: إن العلاقة بين الدين والدولة هي عامل أساسي في مفهوم التطور الفكري، فالإيمان هو الاعتقاد الكامل فيما هو مقبول بعقولنا المحدودة أو ما يتجاوزها؛ لأنها مسألة تتصل بالوعي الغيبي الذي يدفع الإنسان - مهما كان دينه - للتسليم بما وقر في قلبه وصدقه عمله وذلك أمر يؤثر تأثيرًا مباشرًا لا على نمط الحياة وسلوك الإنسان وحدهما ولكنه يمتد بآثاره إلى التركيبة العقلية والصورة الذهنية ويجعل منهما شيئاً يتطابق مع ما هو قادم في المستقبل المنظور على الأقل.
ثالثاً: إذا كان الدين عاملاً رئيسياً في التكوين العقلي خصوصاً لدى الإنسان المسلم؛ فإنه يتدخل في حياته من الميلاد إلى الوفاة مروراً بالزواج والطلاق والميراث وغيرها من شؤون الدنيا، لهذا فإن الدين يحتل لدى المسلمين خصوصاً جزءاً كبيراً من خلفيتهم الفكرية وطريقة تعاملهم مع الحياة، حتى إنهم لا يجعلون المقياس لأمر ما، هل هو مشروع قانوناً أم مجرّم قانوناً؟، فهم يقولون هذا حلال دينياً أو حرام دينياً وهنا يكون الدين قد سيطر على العقل وعلى طرائق التفكير وأصبح هو المتغير المستقل الذي تتبعه كافة المتغيرات.
رابعاً: لقد قلت ذات يوم إن العقاد هو نحّات الفكرة وإن طه حسين موسيقار الكلمة، وما زلت أحسب أن ذلك توصيف دقيق لهاتين العبقريتين في تاريخ الأدب العربي المعاصر؛ بل إنني أحياناً أتصور أن بعض قصائد شوقي أو نزار قباني تقترب من ألوان الموسيقى بإيقاعها القوي ونغمها الصداح الذي يؤكد في النهاية أن الإنسان ليس عقلاً فقط ولكنه مجموعة من المشاعر ترتبط بمجموعة من الأفكار وتدفع في النهاية بالإنسان العصري كما يريد لنفسه.
خامساً: عندما نستعرض التاريخ الحديث في دولة معينة فإننا سوف نلاحظ النقلات الواضحة من مرحلة إلى أخرى فأنا أشعر أحياناً أن العقل المصري قبل 23 يوليو عام 1952 مختلف عما بعدها؛ بل وأجازف بالقول إن الأمر ينسحب أيضاً قبل 25 يناير عام 2011 وما بعدها. بل إنني أبدو مذهولاً في بعض الأحيان للتعرف إلى تطورات معينة هل هي سابقة على تلك الثورة الأخيرة أم لا عندما أصبحنا أمام أسلوب مختلف في التفكير ونظرة متباينة عند اتخاذ القرار ولأنني أطرح أمثلة معاصرة فإن كلاّ منا يدرك أين يقف وفقاً لحساباته الذاتية التي قد تجعل الأمر أحياناً يتجه نحو عملية واعية للتنقيب في العقل واستكشاف مظاهره الجديدة تأكيدًا لما أطلقنا عليه التطور الفكري للأفراد والجماعات والمجتمعات والدول.
هذه محاولة للتفكير بصوت مرتفع في أهمية التركيز على التطور العقلي، عند دراسة تاريخ الأمم في مراحل نهوضها والشعوب في فترات صحوتها، وليكن واضحاً للجميع أن توثيق الرؤية الشاملة هو في حد ذاته تأكيد لقيمة ما جرى وما يجري.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"