ممارسة السياسة من خلال الفتن

04:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

هل نحن العرب متخصصون في ممارسة الخلافات العبثية في ما بين مكوِّناتنا حتى إبان المحن الكبرى التي تطال وتسحق الجميع، ولا تستثني أحداً؟

في تاريخنا هناك الفتنة الكبرى، من معركة الجمل إلى مقتل عثمان المأساوي، إلى حرب صفين الكارثية، إلى جريمة الخوارج بحق الإمام علي، إلى الاغتيال المفجع للإمام الحسين بن علي في كربلاء، إلى الانقسام المميت بين الأمويين والعباسيين إلى . . إلى . . بلا نهاية، والتي نذوق مرارتها ونحصد ثمارها الفاسدة إلى يومنا هذا، وإلى سنين طويلة قادمة . هل هناك أشدُّ مرارة من حصاد تلك الفتنة متمثلة في المشاحنات الطائفية السنيًّة- الشيعية في أيامنا التي نعيشها، بينما يعود الاستعمار إلى أرضنا ويتمدَّد النفوذ الصهيوني في كل أرجاء وطننا، ونحمل سبًّة وعار التجزئة والتخلف أمام كل العالم الذي يتفرَّج ويعجب من استمرار عجز هذه الأمة وقلًّة حيلتها؟

ليس أفدح من سوءات ممارسات ذلك التاريخ إلا مسلسل الفتنة الكبرى في عصر الأمة الحديث . إنها فتنة، حلقات من الانقسامات المفجعة السُريالية . هل نذكر انقسام الحركة القومية، ذات الشعارات الواحدة، إلى بعث وقوميين عرب وناصريين في الوقت الذي كان فيه مد وعنفوان الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية موحد الأهداف والرُؤى والفعل؟

هل نذكر الانقسام الفلسطيني، فكراً ونضالاً وعلاقات داخلية وخارجية متناقضة، بينما الوجود الصهيوني يتمدَّد ويأكل على مائدة الغنائم، ثم يبصق الفتات للمتناحرين الساهين عنه وعن الوطن الذي يضيع؟

هل نذكر الانقسام البعثي- البعثي المجنون الذي أضاع في النهاية الفرصة التاريخية لعراق- سوري قوي شامخ يهابه الأعداء، ويجر قاطرة الوحدة العربية إلى برِّ الأمان؟

هل نذكرالانقسام القومي العربي- الإسلامي العبثي الطفولي الذي أنهك قوى الأمة وأضاع فرص الوطن، حتى إذا بذلت جهود كبيرة عبر ثلاثين سنة لإيجاد أرضية مشتركة في ما بين التيارين، ونجحت تلك الجهود إلى حدود معقولة، انهارت علاقة القربى أمام أطماع وسلطة الانتهازية التي رأت في الربيع العربي فرصة القفز على الحكم وسرقة منجزات شباب ضحوا بأرواحهم، وبهروا العالم بحيوية إبداعاتهم؟

هل نذكر انقسام الحركة الإسلامية السياسية نفسها إلى إخوان مسلمين وسلفيين وجهاديين متناحرين، وذلك في أحرج فترة انتقالية لثورات وحركات الربيع العربي الواعد؟

هل نذكر انقسام المعارضة السورية إلى قوى ديمقراطية سلمية قلبها على وحدة سوريا وتناغم مكونات شعبها، وفي المقابل إلى قوى عنف تحركها أموال وتدخلات المغامرين والطائفيين، لتصبح الحركة الشعبية الديمقراطية في سوريا أمثولة للكثير من الخزي والألم والخجل وقلة المروءة؟

هل نذكر أصوات الانفصالات والتجزئة والإضعاف في اليمن والسودان والعراق وسوريا . . . وغيرها كثير؟

هل نذكر المرات الكثيرة التي شع ألق البطولات في الأرض العربية، وأيقظ الآمال والفرح، حتى إذا ما دخل أصحاب البطولات في دهاليز السياسة والمماحكات الطائفية أو القبلية إنطفأ ذلك الألق، ودخلت الأمة في ظلمات اليأس والقنوط؟

قصص وأمثلة الفتن الكبرى في عصرنا الذي نعيش تحتاج إلى مجلدات . لقد أصبحت الفتن ظاهرة ملازمة لمسيرة العرب في التاريخ، ولم نتعلًم من تكرارها شيئاً . وإن الفترة الانتقالية لما بعد ثورات وحراكات الربيع العربي المبهرة الساطعة في سماء العالم تبتلى بكثير منها، بل لم تبق فتنة في قاموس الفتن إلا وتم إشعالها . لقد استعمل حطب التاريخ والجغرافيا والعرق والدين والمذهب والجنس لإشعال فتن لم تخطر قط على البال السوي .

الأسئلة العربية الأبدية تطرح نفسها في كل منعطف من تاريخنا القديم والحديث: لماذا لا نقتنع بأن التنازلات المتبادلة بين الأطراف المختلفة في ما بينها هي أحد الأسس التي تقوم عليها كل فائدة إنسانية، وكل فضيلة وكل عمل معقول، كما جاء على لسان ادموند بيرك، السياسي والكاتب الإيرلندي الشهير، لماذا لا نفرق بين الأيام العادية وبين أيام تكالب الأعداء على هذه الأمة المبتلاة ؟لماذا لا نعطي حيزاً كبيراً لممارسة الأولويات في حياتنا السياسية؟

هل نريد لثقافتنا السياسية أن يحكمها منطق أننا قوم لا توسط بيننا، أم منطق وكذلك جعلناكم أمة وسطاً؟ ممارسة السياسة من خلال منطق الفتن أصبحت إشكالية عربية كبرى . إنها تقوّض كل محاولة للنهوض، للخروج من عباءة الاستعمار، لالتقاط الأنفاس لمواجهة البربرية الصهيونية، لتأجيل الإختلافات الأيديولوجية إلى مابعد انقشاع محن الأمة وتراجع أعدائها .

للمرة الألف نقولها لشباب الثورات والحراكات المباركة في الوطن العربي الكبير: احذروا فخ الفتن الذي ينصب لكم وخنجرها الذي يقطر دماً، إنها دماء أمتكم .

مانقوله لكم كصرخة مستجدية هو صدى لما تقوله بحسرة الملايين وألمهم من أبناء أمتكم يومياً في كل أصقاع الوطن الكبير المنكوب .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"