عالم يتصارع على كمامة

02:51 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

كلنا نعلم أن «كورونا» ليس أول وباء يجتاح العالم، ونتمنى أن يكون الأخير، وإن كنا ندرك أنها مجرد أمنية، خصوصاً أننا نعيش في عالم اختلفت فيه أدوات الصراع، ولم تعد الحروب عسكرية فقط، ولكنها اتخذت أشكالاً متعددة، منها التجارية والتكنولوجية والبيولوجية، وهذه الأخيرة قد يكون ما نحن فيه إحدى نتائجها، في إطار صراع الكبار على السيطرة على القرار في الكوكب، وهو الأمر الذي يثار حوله الكثير من القيل والقال، في ظل اشتعال حدة الاتهامات المعلنة بشأن تخليق الفيروس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
رغم أن (كوفيد 19) ليس أول فيروس ينشر وباءً على الكرة الأرضية، ورغم أن كتب التاريخ فيها الكثير من الصفحات التي تتحدث عن أوبئة حصدت العديد من أرواح البشر، ورغم أن الكوارث الطبيعية تضرب الأرض من حين لآخر لتذكرنا بأن الإنسان الذي يتجبر ليس سوى مخلوق هش، وأن الدنيا التي تشغله وتزيده توحشاً لا تساوي شيئاً مذكوراً، إلا أن الإنسان لم يتعظ ولم يتعلم من دروس الزمن، ولم يعِرْ اهتماماً لغضب الطبيعة، ولم يستعد للحظة التي نعيشها اليوم.
لا الدول الكبرى ولا الصغرى، ولا المؤسسات العلمية، ولا الأفراد، وضعوا في الحسبان أن نتعرض لوباء يلزمنا بيوتنا، ويفرض علينا التباعد عن بعضنا، ويصيب كلاًّ منا بخوف وهلع من الآخر، ومن المجهول، ومن الهواء الذي يتنفسه وكل شيء يستعمله في حياته. ورغم أننا ندرك أن الصحة ينبغي أن تكون على رأس الأولويات، إلا أن كثيرين وضعوها في ذيل الاهتمامات!.
الدول تصارعت على امتلاك كل وسائل القوة والردع والرفاه، ولم تشغل بالاً بما يحمي الصحة العامة من أي مفاجآت، وكانت النتيجة أن العالم اليوم أصبح يتصارع على كمامة وجهاز تنفس صناعي، ولم تستحْيِ دول كبرى من أن تقرصن واردات دول أخرى من الأجهزة الطبية، وأصبح كبار العالم يزايدون على بعضهم في صفقات المعدات اللازمة لإنقاذ الحالات الحرجة، وللحد من انتشار القاتل الخفي. وبعد أن كانت الصناعات الطبية في ذيل اهتمامات الرؤساء والزعماء، أعطيت الأوامر لمصانع السيارات بالتفرغ لتصنيع اللازم والضروري طبياً، وبعد أن كان البحث العلمي في ذيل قائمة صناع القرار بالعالم، أصبحنا نراهم يومياً يجتمعون مع العلماء، ويرصدون لهم الميزانيات الضخمة، مسبوقة بكل الدعم المعنوي؛ للتوصل إلى دواء يوقف موجات الموت الزاحفة على جهات الأرض الأربع، ولقاح يؤمّن المستقبل غير الآمن أمام موجات لاحقة من «كورونا»، وغيره من أوبئة مشابهة.
اليوم، أفاقت البشرية على أن عدد المستشفيات في معظم دول العالم لا تلبي حاجة المصابين، واستعرضت دول قدراتها لتنشئ مستشفيات ضخمة في أيام معدودة، في حين لجأت دول أخرى إلى إنشاء مستشفيات في خيم بالشوارع، وحولت دول بعض فنادقها ومنشآتها التعليمية إلى مشافٍ، ولم يكفِ كل ذلك؛ إذ لم يكن أمام دول إلا أن تتوحش إنسانياً، وتترك المصابين من كبار السن يموتون لأجل إنقاذ الأصغر سناً.. توحش لم يتخيله أسوأ سيناريو خيال علمي، بأن تكافئ الإنسانية كبارها الذين أفنوا أعمارهم عطاءً بالقتل غير الرحيم، وذلك سيراً على نهج القتل الرحيم الذي شرعته دول، ولكنه أصبح اليوم بأسلوب لا يعرف أي رحمة.
ليس هذا فقط ما ارتكبته الدول من خطايا في حق الصحة العامة، بل تعاملت مع جنودها والمدافعين عنها من أطباء وكوادر تمريضية بتعالٍ، وحولتهم إلى فئات مهمشة من حيث المرتبات والامتيازات، وهم الذين ندرك جميعاً أنهم يقضون حياتهم بحثاً وتعليماً وعطاءً وعملاً ليلاً ونهاراً، وإلا تجاوزهم قطار التطور في مجال يحمل كل يوم مفاجآت ومستجدات.
ليست الدول والحكومات فقط هي من ارتكبت الخطايا في حق هذا المجال الحيوي، بل الأفراد أيضاً من فاعلي الخير، والذين لا يرون فعل الخير إلاَّ في بناء مسجد أو كنيسة أو معبد، وعلى أكثر تقدير قد يرونه في بناء مدرسة، أما بناء المستشفيات فهو من وجهة نظر معظمهم، ليس من جوانب فعل الخير، وإذا فكر أحدهم في بناء مستشفى يكون فقط للاستثمار والاتجار بصحة الناس.
اليوم، جميعنا يصلي ويعبد الله في منزله، وأولادنا يتعلمون عن بعد، ولكن المنشأة التي لا يستقيم البعد عنها في حالة الحاجة إليها هي المستشفى، وأعتقد أن ثواب إنقاذ حياة إنسان قد يكون أضعاف ثواب بناء دار عبادة.
الحل هو أن نتغير أفراداً وحكومات، ونضع حماية الصحة العامة والبحث العلمي على رأس أولوياتنا، إذا أردنا التسلح بأدوات مواجهة كوارث الطبيعة وإفرازات الصراع البيولوجي بين كبار أهل الأرض.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"