النجيب محفوظ في الذاكرة

02:59 صباحا
قراءة 3 دقائق
حين يكتب عن شخصية مؤثرة في التاريخ مثل نجيب محفوظ، فإن البيئة التي ولدت فيها الشخصية قد تكون في الغالب هي الضوء الذي يكشف الكثير من الأسرار وراء تشكلها، ويلاحظ في الغالب أن الحياة البسيطة المنطلقة من معاناة أفرادها لقلة ما في اليد وبساطته يكون مثل الكنز الذي يتقاتل الجميع من أجل الحصول عليه .
وللحارة سر عجيب استفاد منه وأفاد الكثير، فهي كالبادية التي كان العرب يرسلون أبناءهم إليها ليتعلموا فنون الحياة والتخاطب والأدب والكفاح، وسر الحارة أو القرية يكمن في مساحة النقاء والصفاء البيئي والاجتماعي الذي لا يزحم ذاكرة الإنسان بكثير من التفاصيل التي لا طائل من ورائها، ولا تؤدي إلا إلى إرهاق مساحة التفكير وشتات العقل، وهذا ما يلمسه كثير من القادمين من تلك القرى البعيدة عن الضوضاء ويوثقون هذه المشهدية في أعمالهم، ويصفون الهروب إلى البساطة بطرق مختلفة، وحين رجعت أجر ذاكرتي من المدينة إلى القرية ذات بوح، استوقفتني القرية في حوارية طويلة شاركتني جدتي الساكنة في قبرها سردية النص، فقلت لها: وقدمتُ إلى قريتي/ سألت جدتي عن عصاي/ أنا في المدينة ليس لديَّ غنمْ .
ونجد أن كثيراً من العظماء الذين أبدعوا وأسسوا وحكموا قد قدموا من القرى، فبساطة القرية تقابلها بساطة في الدخول إلى عالم واسع ينطلق في فضاء تخيلي وإبداعي لا تحده حدود، ولا يعكر مناخه دخان المدن المكتظة بالناس، وما يحاصرهم من طموحات وأحلام وهموم، وما يطوق مساحة أنفاسهم من احتياجات تتطلبها تلك المدن .
ومع أن القرية والمدينة قد تبدوان وكأنهما في عداوة وتناقض، إلا أنهما لا ينفكان أو يستغني أحدهما عن الآخر، وهما مكملان لمشهد يصنع من خلال هذه الثنائية، وتدخل القرية ببعض تفاصيلها لتحتل مساحة في المدينة تعطيها مسحة جمالية مختلفة، وتتصالح المدينة مع القرية في الغالب لتشكيل حلف قوي يتقدم ليغزو العالم بروح متحدة العطاء والفكر .
في أعمال الروائي والأديب العربي الراحل نجيب محفوظ نجد الحارة تتحدث بلسان إبداعي مبين شهد له العالم بالتفوق والدهشة، لأن هذا الكاتب لم يتنكر لطينته التي شكلت شخصيته، فدخلت حارته في أعماله مثلما دخل هو في تفاصيلها، وعاشت معه وهو محاصر بالزحمة، فالمكان البسيط الذي ينقب عنه الكاتب بين المباني المرتفعة والشوارع التي تئن من المارة يكون مكاناً وقرية أخرى في وسط الضجيج، وهو ما كان يبحث عنه محفوظ ويلتقي بأصدقائه في خلوة مع الأدب واللحمة الاجتماعية .
وربما لم يكن الكثير منا يلتفت إلى الكاتب وأهميته حين يتابع مسلسلاً أو فيلماً يعرض، فتفاصيل العمل مع الشخوص التي تقدمه والمؤثرات المحيطة بالمكان تشغل الفكر عن البحث عن ذلك المبدع الذي هو أساس العرض ومصمم عوالمه، ونجيب محفوظ أحد هؤلاء الكتاب الكبار الذين أبدعوا وصمموا، وكان للحارة المصرية النصيب الأوفر في كتاباته التي مهدت لحصوله على جائزة نوبل للآداب 1988 ليكون أول عربي ينال هذا اللقب .
والكتابة عن أمثال نجيب محفوظ بعد رحيلهم هو عملية إحياء وبعث لما قدموه من أعمال جميلة، لتبقى سيرتهم متصلة بالأجيال، فحين تذكر الثلاثية، وأولاد حارتنا، والحرافيش، المدن وخان الخليلي، وبين القصرين، واللص والكلاب وغيرها من الأعمال التي كتبها محفوظ الذي توفي في 30 أغسطس/آب 2006 بعد 94 عاماً تحركت على هذه الحياة، تشكل هذه الكتابة عنها حتى وإن كانت من خلال أسطر تذكيراً بنسب ما قدمه هذا الكاتب واستذكاراً لسيرته التي تحفز على الإبداع، فمثل نجيب محفوظ هناك كثير من المبدعين لم يجدوا الطريق الذي يوصلهم إلى الآخر مثلما وجده غيرهم .

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"