لا غذاء في سلة الغذاء

02:30 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

يعاني السودان منذ نحو ثلاثة عقود، أزمات متراكبة ذات جوانب سياسية واقتصادية، ولم تنجح كل المحاولات في إخراجه من هذا المسلسل القاتم، إلا لفترات قصيرة تعود بعدها الأوضاع إلى التأزم، وقد فاقم من هذه الصعوبات ما تعرّض له السودان من عقوبات ما زال بعضها قائماً.
وليست الاحتجاجات الأخيرة بطابعها العفوي ، سوى ثمرة مُرّة لهذه الأزمات التي أثقلت كاهل الحكومات والمواطنين معاً. فقد شهد العام الموشك على الانصراف، تدهوراً في قيمة الجنيه السوداني أمام العملات الأجنبية، نتيجة ضعف الصادرات وارتفاع كلفة الاستيراد، ما أدى إلى ارتفاع هائل في الأسعار.
وواقع الأمر أن الوضع الاقتصادي شهد صعوبة كبيرة بعد انفصال جنوب البلاد، ما أدى إلى فقدان نحو 80 في المئة من حقول النفط، وحيث كان ينتج السودان نحو نصف مليون برميل يومياً، وقد انخفضت هذه الكمية إلى زهاء 90 ألف برميل بعد استقلال الجنوب، وقد أخفقت مفاوضات نقل نفط الجنوب عبر الأراضي السودانية للتصدير عبر ميناء بورتسودان، وحيث كان من المقدر أن تغطي العائدات الاحتياجات النفطية. وهو ما يفسر أزمة الوقود وارتفاع أسعاره.. وذلك مع النقص الفادح في العملة الأجنبية وصعوبة استيراد هذه السلعة الحيوية. وقد انعكس ذلك بالسلب على دورة الحياة الاقتصادية، بما فيها إنتاج الكهرباء وتشغيل المعامل وحركة نقل السلع والأفراد..
وبموازاة ذلك، شهدت البلاد أزمة دقيق ونقصاً في الخبز ما أدى إلى رفع أسعاره، وقد لجأت الحكومة إلى وقف الزيادة على سعر الخبز بعد اندلاع الاحتجاجات الأخيرة التي لم تتوقف رغم هذا التراجع الحكومي، إذ إن الشكاوى العامة تنصب على موجة الغلاء غير القاصرة على سلعة بعينها. وقد طاولت الأنشطة الاحتجاجية مرافق عامة، مثل مقار المؤتمر الوطني الحاكم ومراكز للشرطة إضافة إلى ممتلكات خاصة.
وبينما برّأ ت تصريحات لأجهزة الأمن، الأحزاب من المشاركة في الاحتجاجات، إلا أن بيانات حكومية لاحقة اتهمت الأحزاب باستغلال هذا الوضع، وهو ما لم تؤكده مصادر أخرى. إذ من الثابت أن المحرك لهذه الموجة الاحتجاجية، هو ضنك العيش وعسر الحياة، في البلد الذي لطالما وصف بأنه سلة الغذاء العالمي، وتكفي ملاحظة سحنات الشبان المحتجين وقاماتهم النحيلة وملابسهم المتواضعة، لإدراك أن هذه الموجة عفوية، وأن المحتجين تحركهم حاجاتهم المعيشية الضاغطة، وقد جاءت حلقة في سلسلة من احتجاجات شهدتها تونس والأردن والعراق، إضافة إلى موجة تظاهرات «السترات الصفر» في فرنسا. وسبق للسودان أن شهد موجة مماثلة في العام 2013، علاوة على مظاهر احتجاجية متفرقة منذ خمسة أعوام حتى اندلاع موجة ديسمبر هذه.
ومن المؤسف أن تبدو الأزمة الداخلية بغير آفاق لحلها في الأمد المنظور، وذلك مع بقاء القطيعة قائمة بين الحكم والأحزاب التاريخية في هذا البلد،الذي يفتقد برامج لاجتذاب المستثمرين، وعلى الأخص من أبناء السودان المنتشرين في سائر بقاع الأرض، وذلك لاستثمار الموارد الطبيعية، ومنها الذهب، حيث يعتبر السودان ثاني بلد إفريقي في إنتاج هذا المعدن الثمين، ومؤخراً بدأت السلطات في إيقاع كبار المهربين في قبضتها.
أما الأحزاب فتكتفي بالشماتة بالحكم على ما يكابده من أزمات متلاحقة، علماً بأن الناس البسطاء هم من يدفعون الثمن الفادح لهذه الأزمات، ومستقبل البلد هو المهدد لا سمح الله، إذا ما استمر مسلسل الأزمات على حاله، والمطلوب بدلاً من الاعتصام بالسلبية أن تبادر القوى السياسية مع الحكومة وضع برامج وطنية إنقاذية، تضع السودان على سكة الحلول لمشاكله التي تأخذ بخناق بعضها، ابتداء من صيغة الحكم إلى المؤسسات التمثيلية إلى وضع ضوابط للحكم الرشيد، ومكافحة الفساد أنّى وجد، وإلا فإن وطأة الأزمة سوف تطبق على الجميع، مع عزوف الآخرين عن تقديم المساعدة نتيجة التشكك في ضعف القنوات التي قد تتلقى المساعدات، وما يرافق ذلك من استمرار الاستعصاء الاقتصادي والاجتماعي والانسداد السياسي، وما يولّده كل ذلك من ضآلة الفرص، وضعف الإنتاج وضمور دورة الحياة الاقتصادية، وما ينجم عن ذلك من تحديات في قطاعات الصحة والتعليم والنقل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"