شافيز وموت اليسار

04:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

لقد قيل الكثير عن فوز قِوى اليسار في الانتخابات التي جرت في دول أمريكا اللاتينية خلال السنوات القليلة الماضية، غير أن هذا الفوز يبدو الآن أشبه ما يكون بالاستفاقة المؤقتة التي تسبق لحظة الموت الحتمي . صحيح أن اليسار بوصفه تعبيراً عن منظومة أفكار إنسانية سيظل محتفظاً بجزء كبير من جاذبيته عند من يتمسكون بأحلام المجتمعات الطوباوية، وسيظل قادراً أيضاً على لعب دور أساسي في الرفع من معنويات المسحوقين والكادحين في كل أصقاع الدنيا . غير أنه يمكننا القول بموازاة كل ذلك، أن زمناً طويلاً سيمضي، قبل أن يتمكن مفكرو اليسار من إعادة صياغة أفكار واقعية وإجرائية تملك هامشاً محترماً من القدرة على التجسيد على مستوى الممارسة العملية، خاصة وأن الأنظمة الاشتراكية أخفقت، في تجاربها السابقة، في صياغة نموذج عملي لفلسفة العدالة الاجتماعية قابل للتطبيق . إذ مازالت غالبية الدول التي مرت بتجربة الحكم الاشتراكي، تعاني من اختلال كبير في توزيع الثروة، والمثال الصيني- الياباني يمثل أبلغ تعبير عن هذا الواقع؛ وبالتالي فإنه وعِوض أن تُحقق هذه الدول مستوى مقبولاً من العدالة الاجتماعية، سقطت في نوع من الممارسة الشعبوية التي أضرّت بشكل واضح بالتوازنات الداخلية للمجتمع . لقد أكثرت غالبية الأنظمة الاشتراكية من الحديث عن الاقتصاد وفيه كان فشلها الذريع، إذ تحوّلت المجتمعات التي قادتها من كيانات سياسية قائمة على الإنتاج والاكتفاء الذاتي، إلى ما يشبه الأنظمة الاقتصادية الريعية التي يلهث فيها الجميع وراء صندوق المال العام، الذي يغترف منه كل واحد بالقدر الذي تتيحه له علاقاته ومعارفه مع أصحاب القرار .

ونعتقد أن إمكانية اختفاء الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز عن المشهد السياسي العالمي نتيجة صراعه المرير مع مرض السرطان، قد يؤدي إلى إعادة رسم خارطة جديدة للمشهد السياسي في أمريكا الجنوبية، فمن غير المتوقع أن يعيد اليسار تحقيق نجاحات ملفتة للنظر؛ فقد تقلصت الخيارات المطروحة أمامه من أجل ترجمة وعوده الانتخابية على أرض الواقع، نتيجة لتراجع بريق المشروعية الثورية التي هي في أصلها لحظة عابرة ويصعب المحافظة على جذوتها مشتعلة . وعلينا أن نعترف في كل الأحوال أن الأحزاب الاشتراكية التي مازالت تمتلك زمام القيادة السياسية في بعض الدول، باتت هي نفسها أقرب ما تكون من تيارات الوسط من حيث برامجها وأساليب تسييرها، أكثر من قربها من تنظيمات اليسار بمعناه التقليدي .

لقد قدّم الاشتراكيون الذين ما زالوا يملكون زمام الحكم في البرازيل منذ الرئيس السابق لولا داسيلفا، وعوداً كثيرة للفقراء والمعدمين في هذا البلد، غير أنهم لم يتمكنوا من التأثير بشكل لافت على البنية الاجتماعية والطبقية داخل المجتمع، فمازالت الفوارق بين الأغنياء والفقراء كبيرة، ومازالت قواعد السوق هي التي تفرض على الحكومة ما يجب عليها أن تقوم به؛ وعليه فقد اتضح للجميع أن الاشتراكية لا تستطيع أن تحقق أهدافها عن طريق صندوق الانتخاب فقط، فتغيير الأوضاع يتطلب ثورة عارمة تُحدث انقلاباً كلياً في المجتمع، والانقلاب حتى وإن حدث بصورة سلمية فإن مساوئه تظل أكبر بكثير من محاسنه . فقد أثبتت التجارب السابقة أن دول أوروبا الشرقية انتقلت في معظمها من المرحلة الإقطاعية أو الرأسمالية البدائية إلى مرحلة رأسمالية الدولة التي سمحت للبيروقراطيين المسيطرين على الأحزاب الشيوعية من التحكم في رقاب البلاد والعباد، ومكنتهم لاحقاً من السيطرة على الثروة والاقتصاد بعد انهيار الأنظمة الشيوعية .

من الواضح أن المساواة النسبية لم تتحقق حتى الآن، سوى في المجتمعات الأوروبية التي بنت مؤسسات ديمقراطية قوية وراسخة، وأسست مجتمعات مدنية تعمل بكفاءة عالية وتمتلك قدرة كبيرة على التأثير في رسم السياسات في دولها، من دون أن تتحوّل إلى لعبة في يد أصحاب المال والسلطة؛ كما أن الدول الأوروبية نجحت حتى الآن في تسيير المال العام بشكل يسمح بتحقيق تضامن اجتماعي فعّال، وبإعادة توزيع الثروة والدخل بأسلوب سمح - إلى حد ما- بوضع حد لجشع أرباب العمل، وهو ما يمكن أن نلمسه بصورة أكثر وضوحاً في الدول الاسكندينافية .

إن تخلف قوى السوق وضعف المجتمع المدني في دول أمريكا اللاتينية، يجعل من تجارب اليسار في الحكم تعبيراً عن مرحلة عابرة وضعيفة التأثير، في دول ما زال يهيمن عليها الفقر والجهل وسوء التغذية وتنعدم فيها الكثير من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويغيب فيها أي شكل من أشكال التكافؤ في الفرص . ونستطيع القول بناءً على ما تقدم أن الغياب المفترض للرئيس الفنزويلي عن الساحة السياسية المحلية والإقليمية، سيشكل ضربة قوية لمجموع قوى اليسار في أمريكا الجنوبية، وقد يكون مؤشراً على بداية احتضار وموت هذه القوى، لأنه من الصعب على من سيخلفه أن يحافظ على بريق الخطاب الشعبوي الذي ميز شخصيته السياسية . وسيتضح لاحقاً أن الفروق الأيديولوجية بين قوى الوسط واليسار في دول أمريكا اللاتينية قد تضاءلت واضمحلت بشكل كبير . لأن الصندوق الديمقراطي القائم على فلسفة ليبرالية، لا يمنح للرئيس اليساري المنتخب سوى هامش متواضع من حرية الحركة؛ فأبجديات الدرس السياسي تؤكد أن النسق، وبصرف النظر عن مجالات تمفصله، هو جزء من البنية العامة التي يتم تعريفها: على أنها نسق من العلاقات الثابتة في إطار بعض التحولات، ولا يمكن لهذه التحولات العابرة أن تغيّر بشكل لافت القوانين الداخلية للنسق .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"