}} أحاول أن أبتعد عن السياسة، رغم أنها أمر لا غنى عنه، حتى وإن ابتعدنا عنها، ولم نهتم بها، فإن السياسة تلاحقنا، وأينما نولّي وجوهنا، نلقاها بانتظارنا، وكذلك الأمر مع «الإيديولوجيا»، لا نستطيع إغفالها، ولا نقدر على أن ننظر إلى مسائل الفكر والثقافة، نظرة محايدة، من دون أن تحضر «الإيديولوجيا»، وكذلك الحال مع التاريخ، نظل دائماً مشدودين إلى قراءته، وكثير منا يستحضره، ويستسهل العيش في اللحظة الماضية، ينتقي منها ما يشتهيه من رموز يعتقد أنها أكثر إغراءً من «لصوص اليوم»، ورموزه.
}} تحضر السياسة والإيديولوحيا والتاريخ، حينما نقرأ التراث العربي الإسلامي، وحينما نفكر في أسئلة الهوية، ومفاهيم المواطنة، ومنظومة القيم المنشودة.
}} نقرأ التراث لاستيعابه وامتلاكه عقلياً، وإعادة ترتيبه في سياقه التاريخي، وفي ظروفه الحياتية التي عاشها، ندافع عنه، ونستمد منه العبرة ونسعى لتجديده.
}} نعيد قراءته، لكي نعيد بناء الذات العربية المعاصرة، الذات المنفتحة على الفكر العالمي، والتراث الإسلامي.
}} يحمّّل بعضنا التراث، أكثر مما يحتمل، حين يعطيه قدسية خاصة، تمنع التعامل معه على أساس أنه إنتاج بشري.
وبعضنا يريد للتراث أن يبقى صنماً ذهبياً لا يُمس، وأنه يحمل الحقيقة النهائية، ويتجاهل هذا البعض من الناس، كون التراث من صنع الإنسان أولاً، وعرضاً متغيراً ثانياً، وتاريخاً زمانياً تراكمياً ثالثاً.
}} إن المفهوم الحقيقي للتراث يكمن في كونه مبتكرات إنسانية، ومنجزات تاريخية ذات ظروف وشروط وملابسات سياسية واجتماعية وقانونية واقتصادية متبدلة، ومن مركباته: التراث المادي والتراث الفكري، والتراث الاجتماعي الحياتي، مثل قواعد سلوك وعادات ومنظومات قيم.. إلخ.
}} ومن المهم أن نسجل أن القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ليسا من التراث، لأنهما العقيدة الإلهية نفسها، أما التراث فهو من صنع بشر مثلنا.
}} أستطيع أن أفهم، لماذا يمتلك هذا التراث كثيراً من الناس، بدلاً من أن يمتلكوه؟ ولماذا يتخذونه ملجأ يهربون إليه من الحاضر، ويظل مجرد حديث مكرور لا يُجدد، ولا نخضعه لحاجاتنا ومشكلاتنا الحياتية الراهنة، ولا نربطه بالعصر، ليبقى حياً فاعلاً ومتطوراً.
}} أجتهد فأقول: إن السبب الأساس، هو أن مجتمعاتنا مأزومة، تبحث عن أجوبة جاهزة لأسئلة الحاضر ومشكلاته وانقساماته وتناقضاته، فضلاً عن كثافة الشعور بالتراث في الوعي الجمعي للشعوب العربية، إضافة إلى اعتبار التراث هو الآلية الدفاعية في وجه نماذج الحداثة الزاحفة.. لعل ذلك هو التفسير السائد عند كثيرين.
}} لكن، هل هذا الاجتهاد المشبع بالنيات الطيبة وحده يكفي لفهم هذه الإشكالية؟ أم أن من يركب مركب التراث في هذه الأيام، يريد أن يحتكر تمثيله والقول فيه، وأن يكسب معاركه السياسية والفكرية في الوقت الراهن؟ أي «الاستيلاء على الماضي من أجل الاستيلاء على الحاضر»!
.. وبمعنى آخر «تسييس التراث وتوظيفه في الجدل السياسي، والعمل السياسي»؟
}} تتداعى إلى الخاطر، أسئلة أخرى، تتعلق «بالضمير» ونقاء حالة الإيمان من آثار التعصب، والتنزه عن الشعور بالاستعلاء على الآخر المغاير.. وهي أسئلة حارقة، تطرق رؤوسنا كل لحظة.
}} وقرأت ذات يوم، قولاً طيباً لأحد رجال اللاهوت المسيحي في بريطانيا، حينما سئل عن كتاباته ومواعظه الكنسية، تجاه أديان ومعتقدات أخرى.. فقال: «عندما أتحدث أو أكتب نصوصاً عن الأديان الأخرى، أتصور دائماً، أن مسلماً أو يهودياً أو هندوسياً، يقف وراء كتفي، ينظر إلى ما أكتب، ويستمع إلى ما أتحدث فيه، وكأنه يريد مني، أن أقول أو أكتب، ما ينصفه، أو ما يفرحه، وما لا يستفزه ولا يغيظه».
}} تأملت كثيراً وعميقاً في هذا السلوك الطيب، وهذه الفضيلة الإنسانية، ووجدت أن التعصب، وإن كان في أصله موقفاً فكرياً، فهو في حقيقته وقود الفتن، وأساس الفرقة الممزقة بين أتباع الدين الواحد، فضلاً عن وحدة أهل الإيمان.
}} ويتصل بذلك، مسألة اللغة المزدوجة أو الخطاب المزدوج، حيث يتوجه بعضنا بإحداهما إلى الطائفة أو الجماعة التي ننتمي إليها، وبالثانية المختلفة إلى الطائفة الأخرى أو الجماعة المغايرة أو أتباع الديانة الأخرى.
}} ومن هذا الخطاب المزدوج، تتخلق «الحدود الدامية» بين المذاهب والطوائف والثقافات، ويورث الشعور بالتميز، وبالتعصب الذي يغري السفهاء من كل جماعة بمن ليس منها.
}} في صلب «حرقة الأسئلة»، تحضر أسئلة «الضمير»، وشهود الحقيقة وطلاب العدالة.
}}كم رددنا الآيات والأحاديث عن القيم والفضائل، ومناصرة حقوق المستضعفين في الأرض؟ كم رددنا شعارات الرحمة والتسامح والسماحة، بينما سلوكنا مغاير لهذه القيم؟ وكم قرأنا دستور «المدينة» ووثيقة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نصارى نجران، بينما يلعن بعضنا شركاء لنا في الوطن، ويسأل الله، «أن يُيتم أطفالهم، ويقطع نسلهم.. إلخ»، ويشجع بعضنا مراهقين على قتل وذبح وتفجير «أنفس» مسلمة وغير مسلمة.
}} أين هو «الضمير» الديني والإنساني في الثقافة السائدة، وفي مناهج التربية الإسلامية، وفي خطبنا ومواعظنا وفضائياتنا؟
أي «ضمير» ديني يزين لشباب وحتى علماء، ممارسة الغلو والظلم والاستعلاء والإقصاء وتبرير القتل والتهجير والعسف تجاه شركائهم في الأرض والتاريخ والثقافة واللغة والدين والجوار والعيش المشترك؟
}} ما الذي دفع «راشيل»، الفتاة الأمريكية اليهودية، إلى أن تهب دفاعاً عن هدم بيوت الفلسطينيين؟ كيف تسرب إلى عقلها (قبل أن تسحقها جرافة «إسرائيلية») أن هؤلاء هم أصحاب حق؟ لاشك أنه «الضمير» الإنساني، المتسلح بفكر منطقي وعقلاني، والذي يستميت في نصرة المظلوم، أينما كان، ومهما كان لونه أو جنسه أو وطنه أو عقيدته.
}} أي «ضمير» ديني وإنساني هذا، الذي يسعى إلى السلطة والحكم، على جثث مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، وتدمير مجتمعات وتهجير الملايين، وتحويلهم إلى متسولين وبؤساء ولاجئين في شتى أنحاء الأرض؟
}} أي «ضمير» ديني وإنساني، وعيناه وعشناه وخبرناه، فأضمرناه في نفوسنا، وحملناه معنا أينما توجهنا، وكأنه دليل هادٍ يرشدنا؟
}} إنه سؤال يؤرق الوجدان.. نطرحه على ذواتنا.. لكي نستردها.. ونستعيد الوعي، والثقة بالنفس، وبالمشترك الإنساني، ونوظف روح التراث الحية والمتحركة، في مسار الخروج من هذا الكرب الشديد.