نثر القصيدة

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

الشعر بمفاهيمه التي اعتدنا عليها يتميّز بمستوياتٍ فائقةٍ من التواصل مع المتلقّي، وفي حالة إخفاق أيِّ نمطٍ شعريٍّ من تحقيق هذه المعادلة فإنه يفقد على الفور حضوره في المشهد الإبداعي، والقصيدة العمودية بسماتها الأسلوبية ظلّت هي الوجه النضر للشعر، ويأتي من بعدها قصيدة التفعيلة التي تعبّر عن تجربةٍ مهمّةٍ في الشعر العربي، كونها حاضنةً للتجريب وتتمتع بمكانةٍ لدى الشعراء على اختلاف مستوياتها، وعندما عرفنا في القرن الماضي نمطاً جديداً من أنماط الكتابة يستلهم عوالمه من النثر الذي اعتدنا عليه في التعبير باللغة بطرقٍ مختلفة، فإنني لديّ قناعة بأن القصيدة تم نثرها.
 وهذه القناعة جاءت من كوني لم أشعر بتوافق داخلي حول مصطلح قصيدة النثر، لكن يمكن أن نقول بسهولة نثر القصيدة، لأن هذا النمط الجديد الذي أضيف للشعرية العربية والذي افتتن به بعض الشباب الذي لا يمتلك الأدوات الحقيقية أصبح له ذيوعٌ وانتشار، وعندما نقف أمام معضلة المصطلح، فإن هناك في المقابل درجات تحقق فاعليّة كلّ إطارٍ في الشعرية العربية، فالقصيدة العمودية عبّرت عن الشعر في كل العصور، بخاصة تلك التي حاولت التجديد في ميراثها القديم بما يتواءم مع العصر والخروج عن دائرة التقليد التام، بما يعني أن من يريد أن يكتبها فعليه أن يفعل مثلما فعل أبو نواس حين استطاع أن ينسى كل ما حفظ من شعرٍ حتى يكون شاعراً حقيقيّاً خارج الإطار التقليدي.
 والحق يقال إن نثر القصيدة وما أفرزه من نصوص لم يستطع أن يحقق القيمة الجمالية التواصلية، كون هذا النمط ليس لديه سمات أسلوبية متعارف عليها، وهو ما أنتج نصوصاً متفاوتة في درجة قوتها وضعفها، كما أن غياب عامل الموسيقى حصرها في نطاقٍ ضيّقٍ مما أفقدها القدرة على التعبير عن روح المكان، بعكس الأنماط الشعرية الأخرى التي تقبّلتها الذائقة العربية والتهمتها وارتاحت معها عبر السنوات الطويلة الماضية، فالنمط النثري الذي خالف كل القواعد اعتمد على تشتت الدلالة وعدم ثبوت الإيقاع الداخلي والظاهري، وهو ما استعصى على المتلقي تقبل مثل هذا النوع، وكذلك فهمه وحفظه والتمازج معه، مما وضع هذا النمط في دائرة بعيدة عن روح المكان نسبياً. 
من طبيعة الشعر الجمالي أن يكون مؤثّراً ومعبّراً عن روح المكان وممتزجاً مع البيئة الطبيعية، وهذا ما يضمن له البقاء والقابلية، وعلينا الاعتراف بأن هناك نماذج نثرت القصيدة بشكل إبداعي وجمالي، فقرأنا نصوصاً مبهرة، لكنّها في كل الأحيان لم تستطع أن تعبّر عن روح المكان مثل القصيدة العمودية التي لم تزل تتردد على الألسن وتجد حفاوةً في البيئة العربية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"