مأزق الانفصاليين ومناوئيهم

04:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود الريماوي

شاءت المصادفات أن يقع استفتاء على الانفصال في كل من كردستان العراق وفي كتالونيا بإسبانيا في غضون أسبوع واحد. وقد اقترع أكراد العراق مثلهم مثل الكتالونيين لصالح الانفصال. وفي الحالتين رفضت الحكومتان المركزيتان في بغداد وفي مدريد نتائج الاستفتاء. في العراق جرى استخدام القوة لوقف النفوذ الكردي في كركوك وتجندت دول الجوار وعلى الأخص إيران وتركيا لوقف مشروع الانفصال وأغلقتا الحدود البرية والمجال الجوي في وجه إقليم كردستان. ولم تبد دولٌ تذكر في العالم تأييدها لمشروع الانفصال الكردي، وما زال التوتر قائماً على أشدّه بين أربيل وبغداد، وتسعى واشنطن التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الطرفين لإنهاء التوتر فيما لا تكتم حكومة حيدر العبادي في بغداد عزمها على فرض سيطرتها على جميع أنحاء العراق، بما يُفهم منه وضع حد لواقع الحكم الذاتي في الإقليم.
في كتالونيا كانت النتائج مشابهة لكن الوسائل المستخدمة من قبل الحكومة الإسبانية مختلفة. فمدريد رفضت بدورها نتائج الاستفتاء الذي أجري في مطلع أكتوبر وسحبت اعترافها بحكومة كتالونيا وبالبرلمان حيث يتمتع الإقليم وعاصمته برشلونة بحكم ذاتي واسع وقامت بتفعيل مادة في الدستور الإسباني (رقم 155) تمنح للسلطة المركزية حق تعليق وضع الحكم الذاتي في الأقاليم حين ترتأي السلطة ذلك.
وكما حدث إزاء استفتاء كردستان، فإن أياً من الأطراف الدولية لم تبد استعدادها للاعتراف بنتائج الاستفتاء، وبالذات الاتحاد الأوروبي حيث إسبانيا جزء منه. ولوحظ أن فرنسا وهي الدولة الوحيدة التي تجاور الإقليم قد اتخذت الموقف نفسه، وقد انضمت الأمم المتحدة لبقية دول العالم حين دعت الأمانة العامة للمنظمة الدولية إلى معالجة مسألة كتالونيا ضمن محددات الدستور الإسباني. لكن استخداماً للقوة أو تهديداً باستخدامها لم يحدث ضد الإقليم. وخاصة مع إدراك مدريد أن ثمة معارضة لا يستهان بها للنزعة الانفصالية في الإقليم، إذ إن 65 نائباً في برلمان كتالونيا من أصل 135 لم يؤيدوا الانفصال بما يعني المراهنة على تفاعلات داخلية تكبح الجموح الانفصالي.
ومن الواضح أن الموقف شديد التحفظ الذي تبديه دول العالم إزاء مشاريع الانفصال أو الاستقلال لشرائح إثنية أو لغوية (لكتالونيا لغة خاصة بها وتستخدم خارجها كما في بعض مناطق فرنسا) يستند إلى المخاوف من انتشار عدوى هذه النزعات هنا وهناك. فمن مفارقات العولمة أنها عززت المشاعر بالخصوصية الوطنية وبالذات القومية وأحياناً الدينية.. يُذكر هنا أن 17 إقليماً في إسبانيا تتمتع بحكم ذاتي، وكانت الأنباء تتواتر بصورة شبه دائمة عن مطالبة إقليم الباسك بالاستقلال مع ما يرافق ذلك من اضطرابات. وقد خرجت مظاهرات حاشدة فيه تؤيد إعلان استقلال كتالونيا. ويعتبر المغرب كلاًّ من مدينتي سبتة ومليلة على أنهما جزء من المغرب، وأبناء المدينتين يعاملون في المغرب باعتبارهم مغاربة. والمدينتان تتمتعان بحكم ذاتي منذ أواسط تسعينات القرن الماضي ولكن من دون حكومة محلية. وترفض إسبانيا التفاوض مع المغرب بشأن مستقبل المدينتين.
أما كتالونيا (سبعة ملايين ونصف المليون نسمة) فالمشاعر القومية متأججة فيها منذ أزيد من ثمانية عقود. وقد اختارت الحكومة الكتالونية مطلع أكتوبر كما يبدو تيمّناً بأول إعلان استقلالي ظهر فيها في هذا الشهر من عام 1934 ل «دولة كتالونية ضمن جمهورية إسبانيا الفيدرالية» لكن هذا المشروع دام بضع ساعات فقط.
لقد ثبت في نموذجي كتالونيا وكردستان أنه يتعذر الخروج بمشروع انفصالي بغير تأييد خارجي وخاصة من الدول المجاورة. وقد كان لكل من تركيا وإيران دور حاسم في إحباط المشروع الكردي. كما كان للاتحاد الأوروبي الدور نفسه حيال كتالونيا. كما يتعذر نجاح هذه المشاريع من دون تأييد داخلي ولو نسبي من الحكومة المركزية وبرلمانها.
وأمام هذا الواقع الشائك فإن مجريات الأحداث تبرهن أيضاً أنه يتعذر تجاهل النزعات القومية الانفصالية أواعتبارها مجرد نزق خاطئ وطارئ! والتحدي الماثل أمام الدول الديمقراطية يكمن في التوفيق الصعب بين سيادة الدولة القومية، وحق المكونات القومية بأن تتمتع بكينونتها هذه. علماً بأن العنف ليس حلاً، إذ إنه يعمّق الفجوات ويديم التمترس في الخنادق السياسية المتقابلة. وفي جميع الأحوال فإنه ليس مطلوباً ولا مستساغاً إشاعة الانطباعات بالانتصار على الأكراد كشعب ولا على الكتالونيين كقومية، فجذوة المشاعر القومية المتقدة لا يمكن إطفاؤها إلاّ بحلول سياسية ناجعة، متوافق عليها تكفل مصالح الجميع وحقوقهم حتى لو بدت هذه وتلك لدى الطرفين متضاربة. كما أنه ليس من المنطق تجاهل العالم الخارجي والاعتصام بنزعة إرادوية لدى الانفصاليين أو الاستقلاليين، فالعالم أصبح شديد الترابط وتحكمه اعتمادية متبادلة جنباً إلى جنب مع الاحتكام إلى عناصر القوة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"