حين تغدو أمريكا رهينة الخلافات بين حكامها

05:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

ما حدث في الولايات المتحدة، في الأسبوع الماضي، لا يحدث ربما في أكثر دول العالم تخلفا . فالديمقراطية الأعرق، التي تقدم لغيرها دروساً في العمل المؤسساتي والحكم الرشيد والمسؤولية المالية، وصلت إلى حالة شلل وعجز حتى عن دفع رواتب موظفيها، بسبب خلافات داخل طبقتها السياسية الحاكمة .

ففي الشهر الماضي صوت مجلس النواب الأمريكي، الذي يسيطر عليه الجمهوريون، على قانون تمويل يتضمن تأجيلاً لتنفيذ الإصلاح الصحي المعروف باسم أوباما كير . لكن مجلس الشيوخ، والذي يسيطر عليه الديمقراطيون، رفض هذا القانون بعد أن هدد الرئيس أوباما بوضع الفيتو عليه إذا ما وصل إلى البيت الأبيض . هذا الكباش بين الحزبين أعاق التصديق على الموازنة الفيدرالية التي تبدأ سنتها الجديدة مع بداية الشهر الجاري .

وهكذا في غياب ميزانية جديدة وجد 800 ألف موظف فيدرالي (ما يعادل ثلث العدد العام البالغ 9 .2 مليون) أنفسهم في إجازة قسرية غير مدفوعة الأجر (منهم 400 ألف مدني يعملون في البنتاغون و96 في المئة من مستخدمي وزارة الطاقة و80 في المئة من موظفي وزارة المال . . إلخ) . ويبقى هؤلاء من دون رواتب إلى حين توصل زعماء الحزبين الكبيرين إلى تسوية حول التمويل، ولو المؤقت للحكومة الفيدرالية . وبقدر ما يطول أمد التوصل إلى مثل هذه التسوية بقدر ما تزداد العواقب الوخيمة على عمل الإدارات والاقتصاد والأسهم وغيرها، ناهيك عن سمعة الولايات المتحدة في العالم وثقة الرأي العام بالطبقة السياسية .

وقد بقي الديمقراطيون، الذين يشكلون أقلية في مجلس النواب وأكثرية في مجلس الشيوخ، متحدين خلف الرئيس أوباما في رفضهم كل مقترحات نصف الميزانية التي تقدم بها الجمهوريون كونها ارتبطت بشروط اعتبروها غير مقبولة، لاسيما ذلك القاضي بتأجيل تنفيذ الإصلاح الصحي .

والحقيقة أن حزب الشاي المتشدد هو الذي دفع الجمهوريين لتحدي أوباما . فهو يعتبر الإصلاح الصحي تدخلاً غير مقبول في حياة المواطنين وبداية لتأميم قطاع الطب عدا عن كلفته الباهظة على الميزانية العامة المثقلة بالديون . ويراهن أوباما على تفكك جبهة الجمهوريين لأن المعتدلين منهم، الخائفين من معاقبة الناخبين لهم في الانتخابات المقبلة، لن يصمدوا طويلاِ إلى جانب حزب الشاي . فقد دلت استطلاعات الرأي بأن 77 في المئة من الأمريكيين يحملون الحزب المحافظ مسؤولية استخدام الموازنة كرهينة لمنع تنفيذ الإصلاح الصحي . أما الرئيس أوباما الذي لا تزيد شعبيته على 44 في المئة فإنه يحاول الاستفادة من الأزمة ليقدم نفسه كزعيم عقلاني وصلب في الوقت نفسه ضد ما وصفه باليمين المتطرف الجمهوري، معلناً بأنه لن يتنازل أبداً أمام محاولات حرمان ملايين الأمريكيين من الرعاية الصحية . وبدوره أعلن زعيم الديمقراطيين هاري ريد بأنه لن يخضع للابتزاز ولن يفاوض الجمهوريين والمسدس مصوب إلى رأسه . والجدير بالتذكير أن هذا الإصلاح صوت عليه الكونغرس في العام 2010 وكان ذلك بمثابة انتصار سياسي كبير للرئيس أوباما .

مثل هذا الشات داون حدث سبع عشرة مرة منذ العام 1976 وآخرها كان في عهد كلينتون . لذلك فالجميع مطمئنون بأن تسوية سوف تحصل قبل 17 أكتوبر المقبل حينما سيصل الدين إلى السقف الذي حدده الكونغرس (76100 مليار دولار) . وكان أوباما قد طلب من الكونغرس رفع هذا السقف، كما يخوله الدستور منذ العام ،1971 لكن الجمهوريين رفضوا . وإذا استمر هذا الرفض، فلن تستطيع الخزانة الأمريكية الاستدانة لدفع الديون التي استحقت عليها ولا حتى مصاريف الحياة اليومية وستكون الولايات المتحدة في حالة افلاس معلن، ما يضع العالم كله أمام أزمة مالية خطيرة جداً . وهذا ما لم يحدث البتة في تاريخ أمريكا، إذ إن الكونغرس والبيت الأبيض عادةً ما يتوصلان، في اللحظة الأخيرة، إلى تسويات عبارة عن مزيد من الديون والخطط الاقتصادية .

يبقى أن هذه الأزمة إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الطبقات السياسية هي نفسها في كل دول العالم . فالكيدية السياسية بين الجمهوريين والديمقراطيين أطاحت بمصلحة البلد والشعب الذي لم يهتم إلى أمره أصحاب المصالح الذين يريدون حرمانه من أبسط حقوقه في رعاية صحية يفتقر إليها عشرات الملايين من الفقراء الأمريكيين، وتنعم بها شعوب بعض أكثر الدول فقراً وتخلفاً في العالم .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"