واشنطن.. استراتيجية جديدة لشق «صف» أوروبا!

02:46 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أحمد قنديل *

نشاط واسع ومكثف قام به وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في دول منطقة أوروبا الشرقية، أو ما يسمى «الفناء الخلفي» للاتحاد الأوروبي، إذ قام مؤخراً بجولة في هذه المنطقة شملت المجر وسلوفاكيا وبولندا في إطار جولة أوروبية أوسع قادته أيضاً إلى بلجيكا وأيسلندا.
يمكن قراءة هذه الجولة في سياق رغبة الإدارة الأمريكية الحالية في الضغط على الاتحاد الأوروبي من أجل تحقيق التوافق في عدد من القضايا الرئيسية والخلافية، لعل من أهمها كيفية مواجهة الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ومواجهة التدخلات الروسية- والصينية ل«ملء الفراغ» في منطقة شرق أوروبا الحيوية للمصالح الأمريكية والغربية. وقد أظهرت جولة بومبيو الأخيرة في دول المنطقة حجم الضغط الذي ينتظر دول الاتحاد الأوروبي من واشنطن خلال الفترة المقبلة من أجل الاستجابة لمطالبها في النواحي العسكرية والسياسية. عسكرياً، تريد واشنطن إعادة أوروبا إلى الخط الذي رسمته لها فيما يتعلق بالتزام الحلفاء «بتعهداتهم»، لا سيما فيما يخص زيادة النفقات الدفاعية إلى 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وشراء الأسلحة الأمريكية.
وسياسياً، تسعى الولايات المتحدة إلى جذب أوروبا من جديد للدوران في فلكها السياسي والدبلوماسي، من خلال توحيد المواقف تجاه عدد من القضايا الخلافية بين الجانبين. ولذلك يشير عدد من المراقبين إلى أن واشنطن حصلت من الحكومة البولندية، من خلال عقد مؤتمر الشرق الأوسط في وارسو، على منبر، لم تكن لتجد مثله في أي مكان آخر في أوروبا، وذلك من أجل الحديث عن إقامة تحالف ضد العدو اللدود، إيران، رغم استياء لندن وباريس وبرلين من انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني. ولذلك، لم يكن غريبا أو مفاجئا أن تتعامل هذه العواصم الأوروبية الثلاث بشكل بارد مع هذه القمة، مشيرة إلى تماهي مواقف دول أوروبا الشرقية مع مواقف الإدارة الأمريكية المتشددة بشأن التعامل مع التدخلات الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط «بسبب حرصها على علاقاتها مع واشنطن أو حاجتها للولايات المتحدة كقوة حماية عظمى في مواجهة روسيا».
وفي هذا السياق، يشير عدد من المهتمين بالشأن الأوروبي إلى أن واشنطن من خلال تعزيز علاقاتها مع دول شرق أوروبا تهدف إلى إعادة تقسيم أوروبا مجدداً في ضوء مساعي الاتحاد الأوروبي لنهج استراتيجية مستقلة والخروج من دائرة «التبعية» للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي برز مؤخرا تجاه عدد من القضايا المهمة، مثل: دعوة فرنسا وألمانيا لإنشاء جيش أوروبي موحد، ورفض دول من الاتحاد الأوروبي الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي مع إيران ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس. كما زادت الخلافات الأمريكية- الأوروبية أيضا بعدما زادت إدارة الرئيس دونالد ترامب الرسوم الجمركية على الحديد والألمنيوم، رغم مطالبة الدول الأوروبية بضرورة الحصول على إعفاء دائم من هذه الرسوم.
من جهة أخرى، تكشف جولة بومبيو الأخيرة لدول منطقة شرق أوروبا أيضاً بوضوح عن رغبة واشنطن في مواجهة التدخلات الروسية والصينية في هذه المنطقة الحيوية للمصالح الأمريكية والغربية. ففي أثناء زيارته إلى المجر في 11 فبراير الماضي، وهي أول زيارة لوزير خارجية أمريكي منذ عام 2011، حذر بومبيو دول منطقة أوروبا الشرقية من التدخلات الروسية والصينية ل«ملء الفراغ» في هذه المنطقة بعد تراجع التواجد الأمريكي فيها خلال السنوات الماضية، مشيراً إلى أن المنطقة تتعرض بشكل فريد «للاستثمار المفترس والتدخل السياسي» من جانب هاتين الدولتين. كما حث بومبيو دول المنطقة على مقاومة نفوذ بكين وموسكو، مشيرا إلى أن الدولتين تشكلان تهديدين للمكاسب الديمقراطية وحرية السوق التي تحققت منذ سقوط جدار برلين في عام 1989. ومن أجل مكافحة هذا التهديد، أكد وزير الخارجية الأمريكي أن الولايات المتحدة ملتزمة بتعزيز انخراطها في المنطقة، من خلال اتفاقيات التعاون الدفاعي وبرامج التبادل.
من ناحية ثانية، دعا وزير الخارجية الأمريكي أيضا نظيره المجري بيتر زيجارتو إلى عدم السماح لموسكو ب«دق إسفين» بين الحلفاء في حلف الناتو، مشيراً إلى أن اعتماد المجر على الغاز الروسي وصداقتها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يمكن اعتبارهما خطراً على الأمن القومي الأمريكي. ويشار في هذا الصدد إلى أن رئيس الوزراء المجري القومي المحافظ فيكتور أوربان يتمتع بعلاقات وثيقة مع موسكو، حيث استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرتين في عام 2017، كما طالب برفع العقوبات الأوروبية عن روسيا، وحصل في عام 2014 على قرض من موسكو لتمويل توسيع المحطة النووية الوحيدة في المجر. وشهد التعاون بين البلدين تكثيفا ملحوظا، خصوصا في قطاع الطاقة، في سياق اعتماد المجر على المشتقات النفطية الروسية.
وفي بولندا، شدد بومبيو على أن وارسو «أحد أكبر حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا»، واعدا بإقامة تعاون أقوى مع بولندا لتعزيز الجبهة الشرقية لحلف الناتو في مواجهة الخطر الروسي المتزايد. وكانت وارسو تأمل في أن تبني الولايات المتحدة قاعدة عسكرية دائمة في البلاد من أجل مواجهة روسيا، التي تعتبرها التهديد الاستراتيجي الأول لها، منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في 2014. كما تزايد التعاون العسكري بين الدولتين في السنوات الأخيرة. حيث وقعت بولندا مؤخرا اتفاقا مع واشنطن لشراء 20 منظومة صاروخية من نوع هيمارس HIMARS بقيمة 414 مليون دولار. وأكدت السفيرة الأمريكية في وارسو جورجيت موسباخر أن الولايات المتحدة تخطط لزيادة عدد قواتها في بولندا، والبالغ حاليا 4000 جندي، لمواجهة النفوذ الروسي المتنامي، إلا أنها لم تحدد إطارا زمنيا لذلك.
من جهة ثانية، طلب بومبيو من الحكومتين المجرية والسلوفاكية وقف مفاوضاتهما مع عملاق الاتصالات الصيني «هواوي» حول تطوير شبكة «5 جي» للإنترنت في المجر وسلوفاكيا، مشيرا إلى أن بلاده قد تضطر إلى مراجعة بعض عملياتها في دول أوروبية إن واصلت تعاونها مع شركة الاتصالات الصينية. ويأتي هذا المطلب في إطار التوتر والتصعيد المتزايد في العلاقات بين واشنطن وبكين منذ قدوم الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة. تجدر الإشارة إلى أن شركة «هواوي» الصينية تقدم فرعها المجري على أنه «بوابة لأوروبا»، في حين تثير الشركة قلقاً متزايدا لدى الأمريكيين بسبب شبهات تجسسها لصالح الحكومة الصينية.
على أي حال، يمكن القول إن الإدارة الامريكية الحالية تتبع استراتيجية جديدة لتعزيز التعاون مع دول أوروبا الشرقية، التي يرأسها حاليا تيار الشعبويين اليمينيين في بولندا والمجر والشعبويين اليساريين في سلوفاكيا، بهدف شق صف الاتحاد الأوروبي ومنع وجود إجماع على مواقفه حيال قضايا تتعلق بروسيا والصين وإيران. ويقول مراقبون إن الموقف الأمريكي المتسامح حيال التشريعات المعادية للديمقراطية في هذه الدول، والتي تعمق الكراهية ضد الأجانب، هو الثمن الذي تدفعه واشنطن مقابل هذه العلاقات المتنامية مع فناء أوروبا الخلفي.

* خبير الشؤون الآسيوية والعلاقات الدولية. مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"