بحر الإمارات.. بحر من لا بحر له

الأماكن تظمأ لزوارها
02:16 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمد العامري

فضة البحر: حين تعشق المكان تبدأ بنبش موسيقاه، الموسيقى الخفية التي تتحرك في داخلك لتقودك إلى تفاصيل غامضة كما لو أنك في التذاذ كوني، تتعرف إليها بقلبك وتصبح جزءاً من ذاكرتك وحياتك، ففي كل مرة أزور الإمارات يجذبني البحر الذي يشبه بطيبته الناس هناك، عيون كحلاء وملامح عربية أقرب إلى ملامح الصقر، أحسست أن تلك الأمكنة تخصني وتثير عواطف كامنة لدي، ففي بحر الشارقة أصوات باعة السمك، فضة البحر التي تنبض بالخير، زخارف فضية تتحرك وتثير فيك رائحة قديمة، تستدعي صور البحارة الأشداء الذين كانوا يجابهون الضنك بالأهازيج والغناء كمحاولة لترويض البحر صاحب الرزق، رفيق العشاق وحمّال الهموم، كنت أذهب إليه، إلى لونه الأزرق الغامق، لأصمت طويلاً، كان يهديني موسيقاه الناعمة والحزينة، يثيرني لأكتب بمداده الكريم، ذكريات حميمة تبث في روحي الحياة كاملة.

قلائد السمك

في سوق السمك، تعرف بأنك أمام معجزة عظيمة، تنوع الأسماك من القرقور والجش والكنعد والبدح والشعري والهامور والقاعية والفسكر، أنواع تتحرك بجمال تركيباتها اللونية، المخطط والأزرق الفضي والداكن والفاتح، اصطفاف تلك الأسماك بنظام جمالي لافت، وصيادين مغمورين بفرح بعيد، كما لو أنك أمام قلائد أعدت لفرح الرزق، فرح الصغار والكبار، تقاليد متوارثة من زمن الأجداد تسمع في سوق السمك تلك الهمهمات التي كانت تعمر جسد البحر، وتؤجج فيك مساحة للرقص، أسماك لم تزل تتنفس بغياشيم البحر، كأنها لم تزل تحمل ذاكرة البحر على اليابسة، أسماك لم تزل مخزنة بالغناء، الغناء الذي استدرجها للشباك، أغاني الهولو والنهمة والتقصيرة والعرضة على السفينة والخطيفة والسيع والطرشة والفجري، تاريخ يأخذك إلى موسيقى كانت تمسح عرق التعب عن جسد حياة الصيادين، تلك الأنماط من الأهازيج والأغاني، كانت ولاتزال تسري في عروق أرواحهم الشغوفة بالحياة، بحر الإمارات بحر لمن ليس له بحر.

القصباء في الصباح

في القصباء التي أصبحت وجهة للمثقفين، نلتقي على أرض المحبة صباحاً، حيث يكون الصباح لم يزل طرياً وهادئاً، قهوتنا ترافقها الضحكات البسيطة، نأتي محملين بالشوق لتبادل الأحاديث في الشعر والأغاني والحياة، الحديث عن الاغتراب، اغتراب طري ليس بقسوة أي اغتراب آخر، نتسابق في البحث عن طاولة تجمعنا، وتجمع أحلامنا المتعطشة للأحاديث، في الأغلب يسبقنا نواف يونس وننضم إليه أنا وأخي الشاعر علي العامري وإبراهيم جابر و محمد أبو عرب والشاعر يوسف أبو لوز وأحياناً يوسف الديك وآخرون، تبدأ الحلقة الصباحية بثلاثة لتتسع دائرة الحب، نسمع لهجات مختلفة لهجة السوري واللبناني والفلسطيني والأردني ولغات الإيراني والألماني والروسي والإفريقي والآسيوي وغيرها، كإشارة واضحة على الجغرافيا الجامعة للمحبة، الكل يأتي هنا كي يعيش ويبحث عن مساحة للحياة، وأغرب ما دار في إحدى الجلسات شرحي المحترف عن طريقة صنع الطعام وأنواع الأكلات، كان الاندهاش رفيق الشاعر أبو لوز، وبدأنا بالحديث عن ثقافة المطبخ كجزء من إبداعات الإنسان وتجلياته المعرفية، حيث كثير من المبدعين يكتبون في المطبخ، يكتبون بمداد رائحة القهوة رفيقتهم الصباحية، صباحات القصباء صباحات ما قبل الانطلاق إلى العمل، حيث تتزود الأرواح بالحياة، القصباء جارة النهر الذي يموسق المكان، مساحة من المرايا تشرب وجوه المارة لتعطيهم طراوة الصباحات الكسولة، صباحات محشوة بأحلام الليل الفائت. القصباء دائرة الحب اليومي.

محمية المرموم

في إحدى زياراتي إلى الإمارات كانت الفرصة الأجمل أن أذهب إلى محمية المرموم الصحراوية، حيث تكون في عزلة الصوفي هناك، أعشاب صغيرة تقاوم الظمأ، ورمال ناعمة وحنونة تشبه مهد
طفل هدهده النعاس، كنت أتتبع أثر الطيور
على الرمال، كما زخارف برية منتظمة رسمت على جسد الرمل، أقتفي أثر أيل مر للتو من هناك، طيور مهاجرة تعبت من كثرة الطيران لتحط رحالها على بحيرة صغيرة، تتزود بالماء وتغسل ريشها بفرح شديد.

قطعان المها التي تنظر إليك بعيونها الكحلاء كما إناث عاشقات مشوبات بالخجل، المرموم مساحة من الغبطة البعيدة، تدعوك للمكوث وتثير فيك رائحة أشعار الجاهليين، تدعوك إلى تذكر
لبيد بن ربيعة وطرفة بن العبد واليشكري وبشار بن برد، مساحة ناعمة من قصائد الصحراء، تذكرك
بما قاله المغفور له، بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حين قال في إحدى قصائده:

ياطير وضبتك بتدريب

                    ابغي اصاوع بك هدادي

لي طارن الربد المهاريب

                   لي ذايرات من العوادي

القف لهن عساك ماتخيب

                   واقصد لقايدهن عنادي

خمة براسه خمت الذيب

                     وعليك ماظنيه بادي

خل الهبوب تروح وتييب

             ريش شعيع عقب المصادي

واللي سبق طيره بلا طيب

                    يتم في حزمه ينادي

عند اخويانا والاصاحيب

                   كلن بخبره بايسادي

لي ماضوى ودو له الجيب

              تزهاب والطبخة عنادي

هذه القصيدة رفيقة صيد الحباري في الصحراء، هناك تذكرتها وكنت أمانع في مغادرة تلك المحمية التي أعطتني طاقة من الحياة لا يمكن وصفها، مساحة موشاة بالطمأنينة وأشجار الغاف، سماء مغطاة بأجنحة الصقور، المرموم قطعة سكر تعطيك حلاوتها حين تتحنظل الروح.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"