صرخات نسائية فلسطينية خلف قضبان الاحتلال

أسيرات يضعن مواليد هن وسط إهمال طبي
13:23 مساء
قراءة 7 دقائق

من خلف القضبان السوداء، حيث الظلام الدامس، في مكان لا يعرف للرحمة طريقاً، ينادين ويصرخن بحثاً عن مخلص ووقع الصدى في الآذان يصمها، لكن لا مجيب لتلك النداءات، ومن وسط نباح الليالي الطويلة، وأيام عصيبة تكسر الأحلام، وقسوة السجان السارقة للأمل، خرجت حكايات لتروي للعالم قصص القهر والحرمان.

سمر ابراهيم صبيح، من سكان مخيم جباليا، أربعة وعشرون عاما تتلخص كلها بين الألم والمعاناة، تتحدث سمر التي أبصرت نور الحرية قبل بضعة شهور بمعنويات مرتفعة، وسط احتضانها لطفلها براء ابن السجن، حيث ولد هناك وعاش في ظلامه أكثر من عام ونصف العام، لتبدأ شهادتها.

فبعد عامين وأربعة شهور قضتها خلف جدران الزنازين تنفست الأسيرة سمر هواء الحرية، بعدما اعتقلت من منزل زوجها في مدينة طولكرم في الضفة الغربية، حيث كانت حاملاً في الشهر الثالث، بتهمة الانتماء لحركة حماس، واقتادتها قوات الاحتلال الإسرائيلي كباقي المتهمين بقضايا مشابهة بكل قسوة وفجاجة رغم ابلاغها لجنود الاحتلال بأنها حامل في اشهرها الاولى الا ان هذا لم يمنعهم من عصب عينيها وتقييدها واقتيادها الى معتقل المسكوبية ليتم التحقيق معها لمدة تزيد على ستين يوما بشكل متواصل ولساعات طويلة حول حيازتها للمتفجرات وتحضيرها لأحزمة ناسفة، تحت تهديدها بهدم منزل زوجها واعتقال اخوتها واجهاض حملها.

بعد انتهاء مدة التحقيق، نقلتها قوات الاحتلال إلى السجن بعد الحكم عليها رغم عدم اعترافها بأي من التهم الموجهة اليها، واستذكرت سمر هذه الفترة العصيبة من حياتها وقالت: كانت قوات الاحتلال تهملني كثيراً في زنزانتي، وخصوصاً أثناء شهور الحمل الأولى، فلم يكن يقدم لي الطعام الصحي ولا لجنيني، وقد توقف جنيني عن الحراك في الشهر الرابع لضعف تكوينه، وطالبت بنقلي الى المستشفى من دون جدوى وسط تقصير متعمد من قبل ما تسمى ادارة مصلحة السجون الإسرائيلية، وهذا ما اثر في صحتي طوال شهور الحمل.

أنجبت بعد هذا العذاب طفلي البكر براء بعملية قيصرية في مستشفى مئير في كفار سابا التابع لمصلحة السجون الإسرائيلية، وسط إجراءات أمنية مشددة، نعم ولدت طفلي براء في ظلال السجن، وتحت مقصلة السجان، ومن دون حضور أي من أهلي أو أقارب زوجي، بسبب تجاهل مصلحة السجون الإسرائيلية تنفيذ قرار قضائي سمحت فيه المحكمة لشقيقتي وزوجها الأسير في سجن النقب بحضور عملية الولادة للاطمئنان علي.

وتضيف سمر: قبل ولادة براء رفعت دعوى قضائية ضد إدارة مصلحة السجون، كي يتم السماح لي بالولادة من غير قيود، وذلك بعدما حدد الأطباء موعد الولادة، وكالعادة فإن إدارة السجن لا تسمح للحامل بالولادة من دون قيد.. لقد كبلوني بالقيود أثناء فحص ما قبل الولادة بلحظات، ولم تحل إلا بعد أن تقرر إجراء عملية قيصرية لي، غير أنهم بمجرد ولادتي لبراء مباشرة، وضعوا القيد في قدميّ من جديد.

وتابعت سمر الحديث عن فصل آخر من المأساة، وقالت: عدت من المستشفى، أحتضن بين ذراعي أصغر أسير في ذلك الحين، عدت به إلى زميلاتي في الأسر، والحيرة تتملكني وأسئلة كثيرة تدور في خلدي بحثاً عن اجابات، كيف سيربو هذا الطفل داخل أسوار السجن، وفي هذا الوضع المأساوي الذي لا نطيقه نحن الكبار، كيف سأقنعه عندما يدرك الاشياء بسبب وجودنا في هذا المكان.

وأضافت سمر بكثير من المرارة وكأنها لا تزال تتجرع معاناة السجن وظلم السجان: لم تسمح سلطات الاحتلال لزوجي برؤيتي والاطمئنان علي ولا حتى رؤية مولوده الجديد لحين خروجي من السجن، وما خفف على الطفل الصغير لقاءه بالطفلة غادة ابنة الأسيرة خولة زيتاوي التي وافقت إدارة السجن ضمها إلى والدتها الأسيرة في السجن، بعد أن اعتقلت وتركتها وهي رضيعة، حيث لم يعرف براء طفلاً غير غادة، فكانت صديقة وحدته، ورفيقة لعبه، ولكنه الآن قد تركها خلفه في السجن فمن يجمعهما بعد ذلك.

وتضيف سمر: الاحتلال الإسرائيلي لم يترك وسيلة إلا واستخدمها لقمع الأطفال الفلسطينيين وإرهابهم وتحويل حياتهم إلى جحيم، فسلب طفولتهم، وحقهم في العيش والاستمتاع بالحياة الطبيعية كباقي أطفال العالم، وجرح واعتقل وقتل الآلاف منهم، وأجبر بعضهم على أن يبصروا النور في عتمة الزنازين وأن يطلقوا صيحاتهم الأولى داخل السجن، ليكبروا وتكبر معهم المعاناة، كما حدث مع ابني براء.

وأضافت: لا شك في أن ما يواكب نشأة الطفل في شهوره وسنواته الأولى يترك آثاره في صياغة سلوكه العام لاحقاً، والأطفال الذين ولدوا في الأسر أو الذين عاشوا الشهور الأولى من أعمارهم خلف القضبان، لا تزال صور القيود والأقفال والسلاسل الحديدية في مخيلتهم، حيث تتعدد أسئلة طفلي براء مع تعلمه الكلام، اين السجن ولماذا نحن في الخارج؟ على اعتقاد منه ان السجن هو الوضع الطبيعي، وبهذا يكون السجان قد نجح في حفر لغته في عقول الأطفال وربط مخيلتهم بعقلية السجن واصبحوا يحبون اقتناء الاقفال والسلاسل والعيش خلف أبواب مغلقة، وهذا بالتأكيد ما يسبب لهم صعوبة في التأقلم، فبراء لا يزال يرفض اللعب مع الاطفال، ويقول انا لا اريد سوى غادة، وهي الطفلة التي اقتسمت معه عتمه السجن، وما اخشاه هو ان يكون من تأثيرات ذلك انعكاسه على نمو طفلي البدني والنفسي وتوجيهه نحو ممارسة سلوك عنيف كالسلوك الذي تعايش معه داخل السجن، أو الميل للعنف والانتقام ممن عذبوه في طفولته.

تكررت عملية الولادة داخل السجون الإسرائيلية، فسمر لم تكن الأسيرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تضع مولودها في السجن، بل سبق ذلك حالات عديدة كالأسيرات انتصار القاق التي أنجبت طفلتها وطن، وماجدة جاسر السلايمة وأنجبت طفلتها فلسطين وتحررت ضمن عملية تبادل الأسرى العام ،1985 وأميمة الآغا التي أنجبت طفلتها حنين، وسميحة حمدان أنجبت طفلتها حنين وأفرج عنها العام 1997.

وخلال انتفاضة الأقصى، أنجبت الأسيرة المحررة ميرفت طه (21 عاماً) مولودها البكر وائل في شهر فبراير/شباط ،2003 وأطلق سراحها مع مولودها بعد قضاء فترة محكوميتها البالغة قرابة ثلاث سنوات، ومنال ناجي غانم 32 عاماً وهي أم لأربعة أولاد، وضعت مولودها نور في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام ،2003 وانفصل عنها بعد أن بلغ عامين ونيفاً من عمره بقرار من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت تراه من وراء زجاج عازل وشبك سميك خلال زيارة الأهل إلى أن أطلق سراحها قبل أكثر من عام بعد قضاء فترة محكوميتها البالغة قرابة أربع سنوات.

وبحسب الأسيرة المحررة سمر صبيح فإن الأسيرة منال غانم كانت تعاني من مرض الثلاسيميا، مما تسبب في تدهور حالتها الصحية عقب الولادة في ظل رفض ادارة مصلحة السجون الإسرائيلية تقديم العلاج المناسب لها، وأنجبت الاسيرة فاطمة الزق من سكان مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة طفلها يوسف داخل سجون الاحتلال، وهو الطفل التاسع لها، حيث تركت الزق وراءها ثمانية أبناء بعد اعتقالها من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي.

وتشير شهادات سمر وكثير من الأسيرات المحررات، أن الأسيرات الحوامل واجهن ظروفاً قهرية وصعبة للغاية داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي طوال شهور الحمل وحتى موعد الولادة التي لم تتم بشكل طبيعي، وتفتقر للحد الأدنى من الرعاية الطبية، حيث تصر سلطات الاحتلال على نقل الأسيرات الحوامل من السجن إلى المستشفى في ظروف صعبة تفاقم المعاناة، وتحت حراسة عسكرية وأمنية مشددة ومكبلات الأيدي والأرجل بالقيود المعدنية، من دون السماح لعائلاتهن بالحضور والوقوف إلى جانبهن، ويتم تقييدهن في الأسرّة بالسلاسل الحديدية أيضاً، حتى لحظة دخولهن لغرف العمليات، وبعد عملية الولادة يُعاد تقييدهن ثانية بالسرير.

سياسة الإهمال الطبي الممنهجة التي تمارسها مصلحة السجون الإسرائيلية لا تقتصر على الأسيرات، ووصلت إلى الأطفال الرضع من أبناء الاسيرات اللواتي وضعن حملهن داخل اسوار السجن في ظل غياب الاجراءات الصحية والطبية اللازمة.

الأسيرة فاطمة الزق، التي اعتقلت على حاجز بيت حانون ايرز شمال القطاع بينما كانت حاملاً في شهرها الثاني، تمثل نموذجاً لسوء المعاملة والاهمال الطبي الذي واجهته داخل سجون الاحتلال، وتفيد التقارير الطبية بحسب مدير الدائرة الإعلامية في وزارة شؤون الاسرى والمحررين رياض الاشقر، بأن الزق في وضع سيئ للغاية، حيث تعاني من نقص في الوزن وهزال شديد نتيجة رداءة الطعام وقلته المقدم للأسيرات عموما ولها بشكل خاص، وقد بدا عليها الهزال والضعف والإعياء، بالإضافة إلى أنها تشعر بقلق شديد بسبب عدم تعامل إدارة السجن معها كحالة خاصة.

وقال الأشقر: إن الأسير الرضيع يوسف يعاني منذ أكثر من ثلاثة أسابيع من وعكة صحية أدت إلى ارتفاع درجة حرارته إلى معدلات مرتفعة ما شكل خطراً على حياته، وقد ماطلت إدارة السجن في تقديم العلاج اللازم له لفترة طويلة، رغم المناشدات الكثيرة من قبل الأسيرات والمؤسسات الحقوقية المختلفة لإخراجه إلى العيادة وعلاجه قبل أن تتدهور حالته الصحية بشكل اكبر، وتحت الإلحاح الشديد قدمت له الإدارة علاجاً جزئياً، خفف من درجة الخطورة ولكنها لم تعالج اساسيات المشكلة تماماً، والتي تحتاج اهتماما ورعاية متواصلة لحداثة عمره.

ويؤكد الأشقر أن إدارة سجن هشارون الإسرائيلي، الذي تتواجد فيه معظم الأسيرات، لا تهتم اطلاقا لحياة الأسرى الرضع الذين يولدون داخل أسوار السجن، ولا توفر لهم مستلزماتهم الخاصة، ابتداء من تقييد الام لحظة الولادة الى عدم سد الاحتياجات الأساسية من الحليب وغيره، بالإضافة الى احتجازهم مع أمهاتهم في ظروف اعتقالية سيئة جداً وهم محرمون من أبسط حقوق الطفولة، ويتعرضون لما تتعرض له الأسيرات من انتهاكات ومضايقات، وأحياناً تصل إلى حد الاعتداءات والرش بالغاز السام أثناء عمليات القمع واقتحام الغرف بحجة التفتيش عن أغراض ممنوعة، وصولاً إلى الظروف الصحية السيئة وعدم وجود هواء نقي للتهوية، وانتشار الحشرات وقلة المياه الساخنة، وعدم توفير الغذاء الخاص لهم، وفوق هذا تتم مصادرة ألعابهم واحتياجاتهم الخاصة بحجج دواع أمنية على حد زعم ادارة السجون، كما تقوم إدارة السجون بإرهاب الأطفال والأمهات إذا ما سمعوا صراخ أي طفل في المعتقل.

الأسيرات في أرقام

تشير التقديرات والاحصاءات الفلسطينية إلى أن قوات الاحتلال الإسرائيلي اعتقلت منذ احتلالها الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة في العام 1967 أكثر من 10 آلاف امرأة فلسطينية، وحين اندلعت انتفاضة الأقصى الحالية لم يكن في سجون الاحتلال سوى أسيرة واحدة هي سونيا الراعي التي تقبع في السجن منذ العام ،1997 ولكن منذ اندلاع الانتفاضة تصاعدت سياسة اعتقال النساء الفلسطينيات من قبل قوات الاحتلال، وتم خلالها اعتقال أكثر من 700 امرأة فلسطينية، ما زال 113 أسيرة منهن يقضين زهرة شبابهن وراء قضبان السجون والمعتقلات الإسرائيلية، ومن بينهن 6 أسيرات لا يتجاوزن 18 عاماً.

وأغلب الأسيرات غير متزوجات وقدر عددهن ب85 أسيرة، وهناك 21 أسيرة متزوجة من بينهن 17 أماً، وعدد أبنائهن أكثر من 60 طفلاً وطفلة، وهو ما يزيد من معاناة الأسيرات المحرومات من رؤية أبنائهن واحتضانهم، خصوصاً اللواتي يقضين أحكاماً عالية تصل إلى حد السجن مدى الحياة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"