فلسطين.. خلاف أوروبي أمريكي

03:37 صباحا
قراءة 5 دقائق
حلمي موسى

مع وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة بدأت تظهر بشكل أشد وضوحاً الخلافات بين الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في كل ما يتعلق بحل الصراع العربي «الإسرائيلي». وقبل ترامب كانت هناك خلافات حول جزئيات هنا وهناك، لكن هذا الخلاف انتقل نحو الجوهر بعد أن صارت إدارة ترامب، والقائمين على ملف الحل السياسي من عتاة صهاينة اليمين المتطرف.
خرجت قيادات الإدارة الأمريكية، علناً ومن دون تردد، عن بعض التحفظات التي كانت تمنع ظهور الموقف الأمريكي منحازاً بالكامل للاحتلال، وأعلنت أن غايتها هي حماية مصالحه. وضمن هذا السياق جاء الحديث عن صفقة القرن التي عمل الفريق الأمريكي عليها من دون الأخذ في الحسبان ليس موقف الشرعية الدولية، وإنما أيضاً الموقف الأوروبي.
وتقريباً، اصطدمت مواقف الإدارة الأمريكية بشأن فلسطين بمعارضة متزايدة من جانب الاتحاد الأوروبي، ابتداء من تهميش اللجنة الرباعية الدولية، وانتهاء بالاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال. وقد رأى الاتحاد الأوروبي في الموقف الأمريكي من تمويل «الأونروا» واحداً من مظاهر الابتعاد عن الشرعية الدولية فزاد، خلافاً للموقف الأمريكي، من تمويله لها. كما أن الاتحاد حرص على منع بعض الدول من أعضائه ممن يتأثرون بالموقف الأمريكي من الخروج عن الشرعية الدولية، والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان. وظل الاتحاد متمسكاً، خلافاً للموقف الأمريكي، بحل الدولتين باعتباره المدخل الأنسب لحل الصراع العربي «الإسرائيلي».
ويمكن ببساطة، ملاحظة حجم التناقض السياسي مؤخراً، بين موقفي أمريكا والاتحاد الأوروبي عند قراءة التصريحات بخصوص الاستيطان. إذ دأب قادة إدارة ترامب، من وزير الخارجية مايك بومبيو إلى السفير الأمريكي في «تل أبيب» ديفيد فريدمان، على الإيحاء بأن ضم الاحتلال للكتل الاستيطانية في الضفة الغربية أمر مفروغ منه. ووصل الحد بفريدمان في الأسبوع الفائت إلى التصريح في مقابلة مع «نيويورك تايمز» بأنه من حق الكيان مواصلة السيطرة على أراض في الضفة الغربية في ظل أي اتفاق سلام. ومعروف أن فريدمان كان متطوعاً لخدمة جمعية مستوطنة «بيت إيل»، وجمع التبرعات لها في الولايات المتحدة.
ولذلك لم يكن صدفة أن تسارع حكومة بنيامين نتنياهو إلى الإكثار من الإعلان عن مشاريع استيطانية في الضفة الغربية، ومحيط القدس، من دون أن تتخوف من ردود فعل أمريكية. فإدارة ترامب التي سبق وأعلنت أن الضفة الغربية ليست «أرضاً محتلة»، واعترفت بالقدس عاصمة للاحتلال، وميّعت حل الدولتين، واعترفت بالسيادة «الإسرائيلية» على هضبة الجولان السورية المحتلة، لم تترك مجالاً لمنع اتهامها بالانحياز. وإذا كان هذا الاتهام يصدر عن بعض الجهات اليهودية، وبينها أحزاب سياسية مثل «ميرتس»، فإن هذه تغدو قناعة متزايدة في الاتحاد الأوروبي.
وليس صدفة أن أزمة دبلوماسية وقعت حينما صرح السفير الفرنسي السابق في واشنطن، جيرار أرنو، يوم إنهاء خدمته في مقابلة مع مجلة «ذا أتلانتيك»، بأن «صفقة القرن» هي أقرب ما يكون لما تريده «تل أبيب»، وأنها محكوم عليها بالفشل بنسبة 99%.
وشدد الدبلوماسي الفرنسي المتقاعد الذي كان صديقاً لمسؤول ملف التسوية الأمريكي، جاريد كوشنر، على أنه علم منه أن ترامب يعتبر صفقة القرن الفرصة الأخيرة للفلسطينيين للحصول على «سيادة محدودة».
ويمثل أرنو إلى حد كبير موقف الدبلوماسية الأوروبية الذي ظهر في رسالة وجهتها 36 شخصية أوروبية مهمة بينها رؤساء وزارات ووزراء خارجية سابقين إلى مركز الاتحاد، يحضونه على مساندة حل الدولتين، ورفض «صفقة القرن»، لأنها ليست عادلة للشعب الفلسطيني. وانتقدوا تجاهل الولايات المتحدة لتوسع عمليات الاستيطان «الإسرائيلية» في الضفة الغربية، وقطعها المساعدات التي تُقدّر قيمتها بمئات الملايين من الدولارات للفلسطينيين، ما اعتبروه «مُراهنة على سلام واستقرار العديد من الدول الواقعة على أعتاب أوروبا».
وكان معروفاً أن الاتحاد الأوروبي ينوي الإعلان عما يعتبره مبادئ محددة للسلام في الشرق الأوسط، إذا لم تشمل «التسوية الأمريكية» هذه المبادئ. وتتضمن المواقف الراسخة للاتحاد بشأن حل الدولتين، ومبادئ الشرعية الدولية بشأن عدم جواز ضم أراض الغير بالقوة، ورفض الاستيطان. كما رفض الاتحاد الأوروبي المنطق الذي تستند إليه إدارة ترامب بشأن تجزئة الحل، ومنح الأولوية للحل الاقتصادي، من دون أفق سياسي.
وفي كل حال، ليس عابراً أن يركز الفلسطينيون في مواجهتهم «الصفقة» على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، واعتبار ذلك ركيزة لحشد الدعم الدولي لموقفهم. ولهذا السبب فإنه عند نشر الاحتلال عطاءات توسيع مستوطنات، أعلن الاتحاد الأوروبي بموقف صريح يركز على الشرعية الدولية. وهذا فعلاً ما حدث ويحدث بعد نشر العطاءات، أو بعد تصريحات أمريكية محابية للاستيطان.
وفي الأسبوع الفائت، أعلن الاتحاد الأوربي، بعد نشر الاحتلال مناقصة لبناء أكثر من 800 وحدة استيطانية في القدس الشرقية، رفضه الشديد لسياسة الاستيطان. وقال في بيان نشره بهذا الصدد «إننا نؤكد معارضتنا الشديدة لسياسة الاستيطان «الإسرائيلية»، بما في ذلك القدس الشرقية، وهي أمر غير قانوني وفقاً للقانون الدولي، وكذلك يساهم في عرقلة عملية السلام». وشدد الاتحاد على اختلافه مع إدارة ترامب حينما أكد على أنه «سيواصل الانخراط في اتصالاته بين الطرفين وشركائه الدوليين والإقليميين لدعم استئناف عملية ذات معنى نحو مفاوضات حل الدولتين». وبما يناقض الموقف الأمريكي وسياسة فرض الوقائع اليهودية على الأرض، أعلن الاتحاد الأوروبي أن «سياسة الاستيطان وتوسيعها في القدس الشرقية تقوض إمكانية الحل، واعتبار القدس عاصمة للدولتين، هي الطريقة الواقعية لتحقيق السلام الدائم والعادل».
وتحاول الدبلوماسية الفلسطينية والعربية تشجيع القوى العظمى، غير الولايات المتحدة، على الضغط على الإدارة الأمريكية للعودة إلى منهج أكثر اتزاناً. ورفضت السلطة الفلسطينية استمرار الولايات المتحدة في لعب دور الوسيط بينها وبين «إسرائيل»، مطالبة برعاية دولية حقيقية بمشاركة أوروبية وروسية وصينية. وتلقى هذه المحاولة الفلسطينية تجاوباً، ولو جزئياً، من جهات عدة، بينها الاتحاد الأوروبي. ولكن هذا التجاوب لا يرقى إلى مستوى الإيمان بقرب الصدام الدولي مع الإرادة الأمريكية. فأمريكا، خصوصاً في عهد ترامب، تتصرف كأنها الحاكم الأعلى للعالم، وتحاول ممارسة السياسة عبر منهج الابتزاز.
ومن الجائز أن تطورات الحلبة الداخلية «الإسرائيلية» وانزعاج بعض أجنحة إدارة ترامب منها، وبعض التغييرات في أوروبا، قد تضغط باتجاه تعديل السياسة الأمريكية مفرطة الانحياز. فالعقبات التي تواجه إدارة ترامب في إقناع دول عربية وأجنبية بصحة توجهها تجعلها مضطرة لإعادة النظر. كما أن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي جاءت مخيبة لآمال اليمين المتطرف، ما يشكل مانعاً أمام الحكومات الأوروبية قبول الإملاءات الأمريكية. لذلك ليس مستبعداً أن يتجرأ الأوروبيون أكثر على مواجهة الصفقة الأمريكية بعد تزايد تعثرها «إسرائيلياً» وإقليمياً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"