الحب في حضرة الغياب

يحتاج إلى اختراع أساطير ذاتية
05:10 صباحا
قراءة 6 دقائق

يعرف ابن حزم الأندلسي في كتاب طوق الحمامة الحب بأنه سكون بلا اضطراب واضطراب بلا سكون ويعتبر الناقد السعودي عبدالله الغذامي في إحدى دراساته ان هذا التعريف من اكمل ما قيل في التراث العربي وربما العالمي لتعريف تلك الحالة العصية على الوصف والتي يمر بها الإنسان في علاقته بشخص آخر وربما في ايمانه بفكرة او قضية ما.

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق: لماذا نكتب الآن عن الحب؟

لقد لاحظنا في الخليج الثقافي ان الشعر العربي الحالي يكاد يخلو من تيمة اساسية امتلأ بها تراثنا الشعري في مختلف عصوره ونعني بها الحب، ولاحظنا ايضا من خلال التحقيق الذي اجريناه في هذا العدد ان كلمة الحب عندما نذكرها مجردة من دون إضافة، فإنها تحيل الذهن تلقائياً إلى علاقة الحب بين الرجل والمرأة، وفي هذا السياق نؤكد مع المبدعين المشاركين في تحقيقنا ان الشعر العربي الحالي يخلو من ذلك الموضوع، إلا اذا ذهبنا مع آراء مجانية وسطحية تعتبر نزار قباني شاعرا للحب.

نتوقف مع الأسباب التي طرحت في التحقيق لتفسير هذه الظاهرة: البعض ذهب إلى ان الثقافة العربية اتخذت منحى آخر في اعقاب حدث 1967 يميل إلى نقد الذات والتركيز على العيوب أو المثالب، وهو رأي شائع وربما يكون معتمداً في ادبياتنا المعاصرة، ما انعكس بالسلب على احساسنا بالحب وتعبيرنا عنه. وذهب آخرون إلى انشغال العديد من الأصوات الشعرية المعاصرة بالتنظير لقصيدة النثر او كتابتها او حتى التأثر بموضوعاتها الأمر الذي أبعد الشعر عن الحب على اعتبار ان قصيدة النثر لا تهتم بهذا الموضوع.

وأكد رأي ثالث ان الكتابة في هذا الموضوع اتخذت الشكل الحسي نتيجة لأسباب عدة أو التصوير السريع الساذج الناتج عن سرعة الحياة المعاصرة بأدواتها التكنولوجية التي فككت العلاقات الحميمية بين البشر.

ويمكن من جانبنا ان نضيف مجموعة من الأسباب الاخرى التي تطالعنا في دراسات كثيرة حول هذه الظاهرة، فمناخ العصر وفلسفته انعكساً سلباً وبتجليات شتى على هذا الموضوع، ففي الجانب التنظيري لم تعد النظريات الأدبية بخلفياتها الفلسفية وتجلياتها النقدية تتسامح مع تناول الحب بلغة الرومانسية الشفافة بمعناها الكلاسيكي. في هذا الإطار نتذكر دراسة الدكتور صادق جلال العظم المعنونة بالحب والحب العذري، والتي أكد فيها انه لا وجود للحب العذري في التراث العربي الشعري والنثري، وقدم تأويلات شتى لأشهر قصص الحب العذري في تراثنا القديم ليدعم موقفه. ونفس المعنى قاربه الدكتور الطاهر لبيب من منطلق آخر وبأدوات ومناهج مغايرة في كتاب بعنوان: سيسيولوجيا الغزل العربي.

وفي الواقع المباشر الذي ينعكس على المبدع نقرأ دائما عن قضايا سياسية وفكرية ومعارك لا بد أن تخاض وتحسم ولا يمكن تأجيلها، أو عن معاناة وجودية تتجلى في الاغتراب والألم والضياع عبرت عن نفسها في تجارب بعضها صادق والكثير منها مفتعل

وبغض النظر عن تعاطينا مع هذه الرؤى إلا أنها لم تكتف بتفسير غياب الرومانسية عن حياتنا المعاصرة أو تبرير العجز عن الابداع، بل ذهبت في بعض شطحاتها إلى نزع ذلك الموضوع عن تراث يتباهى به ليس على المستوى الشعري فحسب، بل النثري والفلسفي وإلا كيف نقرأ طوق الحمامة لابن حزم؟ وعلينا هنا أن نذكر ان هذا الأخير من أبرز فقهاء المسلمين في المرحلة الأندلسية، وكيف نقرأ رأي النويري في نهاية الأرب عن مراحل الحب: أول ما يتجدد الاستحسان للشخص، تحدث إرادة القرب منه ثم المودة، ثم يقوي فيصير محبة، ثم يصير هوى، ثم يصير عشقاً، ثم يصير تتيماً، ثم يزيد التتيم فيصير ولهاً. وهي مقولة تختصر الكثير من الآراء التي كتبت لتفسير ذلك الألق المرتبط بالحب.

نترك الواقع الحالي ونعود لنتأمل وضعية الرومانسية في ثقافتنا الحديثة خلال القرن الماضي. هنا نتذكر قصائد عربية رومانسية كتبت وحفرت في وجداننا مثل صلوات في هيكل الحب لأبي القاسم الشابي، والقمر العاشق لعلي محمود طه، والأطلال لإبراهيم ناجي، وأقبلي كالصلاة لمحمود حسن اسماعيل، وغيرها القليل، وهي من حيث الكم، مع ترك الجودة للنقاد، لا تقارن بتراث شعري عربي يمتلىء بعشرات الأسماء التي تناولت موضوع الحب، ما يؤكد ان توجهنا نحو الرومانسية في العصر الحديث يعاني من مشكلة، فالأمر لا يقتصر على ما نعيشه الآن وحسب.

الحب يرتبط بأسطورة ملحمية لا وجود لها في الإبداع العربي المعاصر ولو على مستوى التخييل، يحدثنا تراثنا عن عنترة وعبلة، قيس وليلي، قيس ولبنى، جميل وبثينة، وكثير وعزة.. الخ. من هذه الثنائيات صيغت قصائد لا يمكن التعبير عن جمالياتها في جملة او رأي أو مقال.

ويلاحظ ان ابرز الشعراء العرب في العصر الحديث لم ينتبهوا إلى هذه المسألة فنجد احمد شوقي يؤسس المسرح الشعري في إبداعنا المعاصر ويكتب عن مجنون ليلى وأنطونيو وكليوباترا، ولأغراض مغايرة يكتب صلاح عبدالصبور عن قيس وليلى. اي ان المواهب الشعرية العربية البارزة لم تقدم على صناعة اسطورتها الذاتية.

إذن؛ نحن في موضوع الحب الرومانسي في شعرنا المعاصر امام سردية تفتقر إلى التنظير والأسطورة الملحمية ولأسباب عدة ذكرنا بعضها في السياق. ولنترك موضوع الحب بين الرجل والمرأة جانباً، ونسأل عن اشكال الحب الأخرى وأبرزها في التراث العربي العشق الصوفي ذلك الموضوع الذي توقف امامه فلاسفة الآخر ومبدعوه ومستشرقوه، نتباهى كثيرا بتأثير رسالة الغفران للمعري في كوميديا دانتي، وفتنة لويس ماسينون بالحلاج، ونشغف بجلال الدين الرومي والسهروردي وابن عربي والنفري وفريد الدين العطار.. الخ، وفي العصر الحديث لا نجد امامنا الا محمد إقبال (الباكستاني). ما معنى هذا وكيف نفسره؟ وما حدث في الشعر الرومانسي حدث هنا ايضا حيث كتب صلاح عبد الصبور رائعته عن الحلاج. بل ان المعاناة الوجودية الشعرية لم تلتفت إلى مكابدات الصوفية العميقة وذهبت تبحث عن تيماتها في تراث آخر وتجارب مغايرة، ويمكن هنا مراجعة المقالة البحثية المميزة التي كتبها محمد الأسعد منذ فترة وجيزة في الخليج الثقافي حول تيمات توراتية في الشعر العربي المعاصر.

موضوعات الحب الأخرى متعددة: منها السلام والاخاء البشري، حب الصديق، حب الأوطان، في الموضوع الأول نتذكر اشعار طاغور، وفي الثاني تحضرنا رسالة في الصداقة والصديق لابن المقفع، وفي الثالث اصبحت القصائد التي تتغنى بالوطن والأمة من الكلاسيكيات رغم حداثة استقلالنا وحداثة مماثلة في مفهوم الأمة بمعناها الحديث في الثقافة العربية وحل مكانها قصائد البكائيات على الهزائم المتوالية. هل يمكن ان نقول هنا بكثير من الحذر إن الشعر لم يتمسك بمفهوم الأمة ولو على مستوى الحلم؟ اي لم يخلق اسطورته الذاتية الخاصة بها؟ وهنا لا تكون المقارنة مع نماذج شعرية تنتمي لثقافات تشابهت ظروفها في لحظة ما مع ظروفنا في صالحنا.

ولكن ماذا عن الأشكال الإبداعية الأخرى بخلاف الشعر؟ الرواية والمسرح، لم تلتفت ابرز الأسماء الروائية العربية لذلك الموضوع.

وربما اسقط النقد والتحليل من حساباته اعمال محمد عبد الحليم عبدالله ويوسف السباعي بحجة تجاوز الرومانسية المفرطة ولكن المبدع الروائي لم يحاول تطوير شكل ارقى من تلك الرومانسية التي تمرد عليها وربما سخر منها. نتوقف في هذا السياق مع الحب في زمن الكوليرا لماركيز وساحر الصحراء لباولوكويليو، كل منهما على اختلاف المستوى والعمق تعالج فكرة كبرى على خلفية علاقة رومانسية شفافة: عند ماركيز الحب يصمد لسنوات ويقف في وجه الوباء، ومع كويليو يتحول إلى كنز الإنسان الحقيقي والذي يبقى معه حتى النهاية. الحب في الرواية العربية عابر ويستخدم لأغراض اخرى: التحليل الاجتماعي نجيب محفوظ، النقد السياسي عبدالرحمن منيف، وربما العلاقة بين الشرق والغرب الطيب صالح.. الخ مع الأخذ في الاعتبار ان تلك الأغراض انعكست على ادوات السرد وتقنياته ولغته فنحن لا نتذكر موقفاً رومانسياً أو جملة خلابة حول موضوعنا عند هؤلاء. وربما نجد الحال نفسه في المسرح.

نستنتج من هذا العرض ان هناك ازمة حقيقية في الإبداع المعبر عن قيمة الحب لا يمكن إلقاء عبئها على تعقيدات المجتمع وتغيرات العصر فلا يوجد مجتمع بلا حب ولا يخلو عصر من مذاق رومانسي، ويتحمل الجزء الأكبر منها المبدع العربي المعاصر الذي حارب على جبهات عدة واخترع الكثير من الأساطير ونسي ان المدخل الأساسي للمقاومة والأمل وربما التمرد والوجود نفسه يحتاج إلى اختراع اساطير ذاتية وملاحم كبرى عن الحب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"