مناقشة هادئة لخطاب مثير

04:40 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. علي محمد فخرو

لدينا، نحن العرب، صعوبة في فهم الطريقة التي يتعامل بها بعض ساسة ومحللي الغرب مع التاريخ العربي الحديث، خصوصاً مع بعض التعابير المستعملة في وصف أحداث ذلك التاريخ. ويشعر الإنسان أحياناً بأن الأهداف والممارسات السياسية الآنية المكيافيلية تلعب دوراً في تشويه قراءتهم لذلك التاريخ.
دعنا نعطِ مثالاً لما نعنيه من خلال الحدث التالي: في كلمة لدبلوماسي بريطاني، في مؤتمر سياسي دولي، وعلى أرض الخليج العربي، وعلى مسمع من شعوبه، أعلن عن اعتقاده بأن خروج بريطانيا في أوائل السبعينات من القرن الماضي، عسكراً وهيمنة، من الخليج العربي، كان خطأ فادحاً ارتكبته حكومة بلاده في حينها. دعنا بهدوء تام نبيّن له ما نعتقد أنه وجهة نظر مخالفة لما قاله. ذلك أن أغلبية شعوب ومسؤولي ومجتمعات الخليج العربي يقرأون ذلك الحدث بصورة أخرى.
أولاً: هناك تمويه لا نفهمه بشأن طبيعة التواجد البريطاني في أرض الخليج العربي الذي امتد لما يزيد على مئة وخمسين سنة. أفلم يكن تواجداً استعمارياً في شكل تواجد عسكري، هنا أو هناك، وهيمنة على الحياة السياسية والاقتصادية من قبل المقيمين البريطانيين؟ ألم يكن غياباً لأية سيادة وطنية، ولأية متطلبات للاستقلال الوطني؟ ألم يكن ممثلو الحكومة البريطانية المقيمون هم الآمرون والنّاهون في كل كبيرة وصغيرة؟
نحن بالطبع على علم بأن القوانين البريطانية، بل وحتى العلاقات الدولية، كانت في حينها تعرّف الدولة الحامية بأنها دولة تقوم بتهيئة الدولة المحمية اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً لتصبح مهيأة لإعلان استقلالها الوطني. لكننا نحيل الدبلوماسي البريطاني إلى قاموس الفكر السياسي الذي ألفه البريطاني روجر سكروتون في الثمانينات من القرن الماضي، والذي بعد تعريفه لكلمة الحماية، وأهداف الحماية الجميلة التي ذكرنا سابقاً، يضيف جملة لها دلالاتها العميقة. يقول المؤلف: «كثيراً من المستعمرات البريطانية تمتعت بصفة الحماية (مثل روديسيا)، ولكن هناك خلافات فيما إذا كانت قد حظيت بما تتطلبه وتفرضه كلمة حماية». وبمعنى آخر، فقد ألبست الكثير من المستعمرات لباس الحماية، خداعاً وتجميلا، مع أنها لم تحصل على ميزات الحماية، وإنما حصلت على سوءات الاستعمار. وعندما خرج البريطانيون منها فإنهم قد خرجوا مرغمين، أو مضطرين.
وهذا ما حدث بالضبط للوجود البريطاني في إمارات الخليج العربي. ولذلك، فالانطباع الذي أعطاه الدبلوماسي البريطاني على الخروج من الخليج يوحي بأن الانسحاب البريطاني كان تعطفاً، ومنّةً من الحكومة البريطانية، وبالتالي كان قراراً خاطئاً لا دخل لحكومات وشعوب الخليج، ولا حتى للظروف الدولية، في إرغام الحكومة البريطانية على اتخاذ ذلك القرار التاريخي بالانسحاب.
بل إن في كلام الدبلوماسي إيحاءً بأن إمارات الخليج العربي آنذاك، لم تكن مهيأة للحصول على استقلالها. ونضيف بأن هناك إيحاء بأننا، حكاماً وشعوباً ومجتمعات، لم نكن نستحق الاستقلال الوطني، وإلا لما أسف الدبلوماسي على انتهاء الحماية.
ثانياً: يظهر أن الدبلوماسي لا يعتبر أن دول الخليج العربي هي جزء من الأمة العربية، وأنها لذلك تحمل همومها وتغضب لما يصيب أي جزء منها بالأذى والظلم.
لنذكّره بأن في قلب ووجدان كل فرد من شعوب دول الخليج العربي ألماً، ولوعة، وغضباً، تجاه حادثين تاريخيين مفجعين ارتكبهما النظام السياسي البريطاني في الماضي.
الحادث الأول يتمثل في وعد بلفور الشهير الذي بموجبه خانت بريطانيا دورها، ومسؤوليتها كسلطة حامية، عندما سلمت الجزء الأكبر من أرض فلسطين العربية المحميّة لمجموعة من العصابات الصهيونية، وقادت إلى تشريد الملايين من العرب الفلسطينيين خارج بلادهم.
اليوم، والسلطة الصهيونية المحتلة ترفض رجوع المشردين الفلسطينيين إلى أرضهم ومنازلهم، وتتكلم عن الانتقال لجعل فلسطين العربية كياناً يهودياً لا مكان للعرب فيه، وتبني المستعمرات في كل شبر بسطوة السلاح والجند والبرابرة الآتين من كل أصقاع العالم.. الآن لا نرى موقفاً أخلاقياً حازماً واحداً من قبل الدولة التي أعطت أرضاً مؤتمنة عليها ولا تملكها للصوص استولوا عليها باسم أساطير دينية مختلقة ومتخيلة.
أما الحادث الثاني فهو الدور المخادع، المبني على الكذب والتلفيق، الذي لعبته حكومة توني بلير البريطانية، بالتواطؤ مع رئيس الولايات المتحدة الجاهل المغرور السابق جورج بوش الابن، لاحتلال العراق وتدميره، مجتمعاً ووطناً وجيشاً، وإدخاله في حياة الضياع الطائفي، ومن ثمّ تسليمه إلى «داعش» وأخواتها.
ولا حاجة للزيادة، فالدماء والدموع العراقية لا تزال تبلّل أرض العراق المبتلى المدمّر.
ثالثاً: إذاً، فالدبلوسي، في محاضرته، لم يقرأ التاريخ بصورة خاطئة فقط، ويقلب تعقيداته التاريخية إلى مجرّد خطأ تكتيكي ارتكبته حكومة بلاده في حينها، وإنما يتناسى الجروح العميقة في وجدان الإنسان العربي التي نتجت عن القرارات الاستعمارية الظالمة التي أتخذتها ونفذتها بلاده بحق شعبين عربيين لم يرتكبا خطأ قط، تجاه بلاده وشعبه.
إذا كان المحاضر يريد علاقة أفضل بين العرب وبريطانيا في المستقبل، ونحن نتمنى ذلك، فعلى دولته أن تمارس الاعتذار من جهة، وتبذل من جهة أخرى جهداً مخلصاً لتصحيح نتائج ما ارتكبته بعض حكوماتها من أخطاء نعيش إلى اليوم مصائبها ومآسيها.
كان على المحاضر أن يعي أن الحاضر هو مرآة تعكس الماضي، وبوصلة تحدّد المستقبل، وأن علاج الحاضر لا ينفصل عن كليهما.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"