إدماج المهاجرين الذي بات مستحيلاً

02:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
عبد الإله بلقزيز

في بعض المَهَاجر الأوروبيّة، عاشت أجيالٌ ثلاثة من المهاجرين العرب، الذين شدّوا الرّحال إليها، منذ أربعينات القرن العشرين؛ بحثاً عن الرزق؛ حين كانت فرصُه موفورة والطلبُ عليهم كبيراً، في أوروبا، الخارجة لتوّها من حرب عالميّة ثانية مدمِّرة، والمندفعة نحو إعادة بناء اقتصاداتها المدمَّرة، المعانية للنقص الفادح في مخزونها البشري غير المتوائم مع برامج البناء الاقتصادي الضخمة. إلى ذلك، كانت كُلفة تشغيل مئات الآلاف من المهاجرين العرب زهيدة؛ بالنظر إلى أنهم ينهضون بأداء أعمالٍ شاقة يتأباها العمّال من المواطنين الأوروبيين. في بعض المَهَاجر الأمريكية الجنوبية، عاشت أجيال أربعة أو خمسة من المهاجرين العرب؛ لأن الهجرة إلى بلدان؛ مثل: البرازيل والأرجنتين وبوليفيا وفنزويلا بدأت منذ العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. غير أن أوضاع المهاجرين إلى أمريكا اللاتينية، ثم إلى الولايات المتحدة وكندا، ظلت -على العموم - أفضلَ حالاً من أوضاع المهاجرين إلى أوروبا الذين لم يكد يتميّز منهم بأوضاع أفضل إلاّ من أتيح لهم الهجرة إلى أوروبا الشماليّة.
من النافل القول إن عملية اندماج المهاجرين العرب في مَواطن الهجرة بدأت تأخذ سيْرها المتدرّج منذ جيل الهجرة الثاني؛ الجيل الذي وُلِد وربيَ في محيط اجتماعي مختلف عن محيط جِيل الآباء الأصلي. وهي (عملية الاندماج) التي شهدت على انعطافتها بدءاً من الجيل الثالث. على أنّ درجة الاندماج تختلف بين المدارين (الأوروبي والأمريكي) باختلاف شروط العيش هنا وهناك. هي كانت أقوى في الأمريكيتيْن منها في أوروبا؛ لأنّ ظروف الهجرة فيها أفضل حالاً ممّا هي في القارة العجوز. ولقد يكفينا أن نتذكر كيف أن مهاجرين عرباً من أصولٍ سوريّة (سوريّا، لبنانيّة، فلسطينيّة) أصبحوا رجالات دولة وقادة سياسيين ونواباً ووزراء، ورؤساء دول، فيما تأخّرت عملية المشاركة السياسية للمهاجرين العرب إلى أوروبا إلى عهدٍ قريب.
يمكن، عموماً، القول إن اندماج المهاجرين في مجتمعات الهجرة لم يكن حصيلةَ أمرٍ واقع فرضته إقامتهم في تلك البلدان على دولها ومجتمعاتها، على غير إرادة هذه الأخيرة، وإنما أتى ثمرةَ سياسة أوروبية رسمية؛ لإدماج القوى العاملة المهاجرة في بلدان أوروبا. ولقد كان من مظاهرها ما سنَّته دول أوروبية عدة؛ -مثل هولندا وفرنسا وبلجيكا - من تشريعات تُيَسّر عملية التجنيس ومنح المواطنة لمن قضوا فترة من العمل فيها (أسوة بالمجندين من أبناء المستعمرات في الجيش)؛ أو منح الجنسيّة لِمن وُلِدَ لهم من الأبناء في المَهَاجر.
ليس مؤكداً أن السياسات الأوروبية في الهجرة اقتدت بالسياسة الأمريكية في إدماج المهاجرين؛ وقد لا يكون الأمر كذلك بالنظر إلى أن الولايات المتحدة بلدٌ تكوَّن، أساساً، من المهاجرين (منذ القرن السادس عشر) فيما لم تكن تلك حالُ بلدان أوروبا (التي كانت، هي نفسُها، متبرّمةً بفائضها البشري - في القرن ال16 - فشجّعت القوى العاطلة في مجتمعاتها على الهجرة إلى أمريكا المكتَشَفة حديثاً)؛ لكنّ الذي لا شك فيه أن سياسات الإدماج (الأوروبية) هذه أتت تغطّي حاجةً في مرحلة انتعاشها بعد الحرب العالمية الثانية، ثم التعويض عن النقص الفادح في البنية الديموغرافية التي بدت شبه راكدة، تعيد إنتاج نفسها؛ لسبب ضعف الإنجاب.
لقد استفادت الهجرة والمهاجرون من السياسات تلك لأنها وفّرت للمهاجرين حقوقاً لم يكن يسيراً عليهم تحصيلها لولا تلك السياسات. حتى بلدانهم، التي هاجروا منها، وجدت في هجرتهم واندماجهم ما يُطمئنها ويُجيب بعضَ مصالحها: تحويلاتهم وما توفّره من نقد أجنبي، ثم الاطمئنان إلى أن اندماجهم لن يفتح أمامهم طريق العودة الجماعية بما تنطوي عليه من مشكلات الاستيعاب الاقتصادي (ما خلا في حالة مَن هُم قادرون على استثمار مدّخراتهم؛ فهؤلاء، عندها، مطلوبة عودتهم). أما في الأمريكيتين - وخاصّة الجنوبية - فالاندماج كان أيسر، وما كان يتطلب إجراءات بيروقراطية معقدة كالتي في أوروبا. وهو فتح لهم ممكناتٍ للترقي لم يُتحها الاندماجُ في المجتمعات الأوروبية.
اليوم، لم تعد السيرورةُ الإدماجية نشطة، مثلما كانت (خاصة في أوروبا)، لأسباب عدة؛ بعضُها يتعلّق بالتحولات الاقتصادية وتغيرات منظومة الإنتاج فيها وغَنَاء أوروبا، بالتالي، عن النوع التقليدي للقوى العاملة؛ وبعضُها يتعلق بالمشكلات التي بدأت تتولّد من عملية إدماج المهاجرين فيها؛ فيما يتعلّق ثالثُها بتصاعد مشاعر العداء للمهاجرين في بيئات اليمين العنصري المتطرف. في المقابل، تسود اليوم سياسة أخرى مَبْناها على تقييد الهجرة وانتقائيّتها، وعلى رفع مستوى المراقبة للهجرة السرّية في امتداد اندلاع الأزمات والنزاعات في بلدان الجنوب.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"