المواجهة المفتوحة بين أمريكا وأوراسيا

01:33 صباحا
قراءة 5 دقائق
الحسين الزاوي

بدأ الصراع بين القوى الكبرى في العالم يتخذ مسارات جديدة تتسم بحدة متواترة، تطبيقاً للمبدأ العسكري الغربي الدارج «من يجرؤ ينتصر»، إذ إنه وبعد أكثر من عقد من الأحادية القطبية الأمريكية بدأت خطوط التماس بين القوى الكبرى تتحرك بشكل لافت، معلنة عن بداية مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، وأوراسيا بقيادة روسيا والصين من جهة أخرى.

ويمكن القول إن عودة روسيا إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، يرسم معالم محور أوراسي جديد ما بين روسيا والصين، ومن غير المستبعد أن تنضم إلى هذا المحور قوى أوروبية أخرى باتت تضيق ذرعاً بالتصرفات الأمريكية غير المسؤولة، التي تسببت في نزوح مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى أوروبا وتحديداً إلى ألمانيا، التي تسعى حالياً إلى إعادة الدفء إلى علاقاتها مع روسيا في سياق استراتيجية مستقلة عن سياسة المواجهة والعقوبات التي تمارسها الدول الغربية الأخرى ضد موسكو، وذلك وعياً منها بالتحولات الحاصلة في العالم على مستوى موازين القوى.
من الواضح أن المحور الروسي - الصيني يعمل على تحريك الخطوط على مستوى مسرح إقليمي ودولي ظل ساكناً نتيجة للجمود الغربي، وإصرار الولايات المتحدة على تسيير الأزمات عوض العمل على إيجاد حلول لها تحول دون تحوّلها إلى كرة لهب تحرق الجغرافيا السياسية للعالم برمته. ويرى الكثير من المحللين أن تنظيم «داعش» الإرهابي منح لجميع الأطراف الإقليمية والدولية المتصارعة، نوعاً من «المشروعية» الأخلاقية من أجل التدخل في المنطقة من دون حرج كبير، الأمر الذي يطرح أسئلة جدية في ما يتعلق بالنوايا الحقيقية لكل هذه القوى المتصارعة من أجل القضاء بشكل جدي على هذا التنظيم الإجرامي. وتسعى موسكو إلى الاستفادة ليس فقط من دعمها للنظام في سوريا ولكن أيضا من مراقبتها له، دون الدخول بشكل مباشر في ثنائية الصراع السني- الشيعي أو على خط المواجهة بين السعودية وإيران، لأن لها مصالح مزدوجة مع القوى الشيعية والسنية على حد سواء من أبرزها إيران ومصر والجزائر، إضافة إلى تعاملها الحذر مع القوى الإقليمية الأخرى مثل تركيا و«إسرائيل»، هذه الأخيرة التي ترفض - على الأقل في المرحلة الراهنة - أن تلعب دور المشاغب للمصالح الروسية في المنطقة، بالرغم من المصالح الاستراتيجية الكبرى التي تربطها بالحليف الأمريكي، الذي يبدو أنه منشغل بملفات أخرى أكثر أهمية.

وتحاول الصين أن تستفيد، في السياق نفسه، من التدخل الروسي في شرق المتوسط من أجل العمل على تشتيت الانتباه والتركيز الأمريكي على منطقة بحر الصين التي تمثل التحدي الأكبر بالنسبة للمصالح الحيوية لواشنطن، وبالتالي فإن توقف حاملة الطائرات الصينية في ميناء طرطوس لم يكن أمراً عبثياً ولعله جاء لينقل رسالة مشفّرة لمن يهمهم الأمر، لأن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تتواجد في «مطحنة الدقيق وفرن الخبز» في اللحظة نفسها، وبالتالي فليس في مقدورها أن تقفز على آلاف الأميال الفاصلة بين شرق المتوسط وبحر الصين أو أن تقضم جغرافياً الدول بكل تعقيداتها، دون أضرار جيواستراتيجية بالنسبة لمجمل مصالحها الحيوية الكبرى.
ويرى المراقبون أن إطلاق روسيا لصواريخ كاليبر من البحر الأسود نحو مواقع التنظيمات الإرهابية في سوريا، يمثل رسالة من طرف روسيا وحليفتها الصين، تبيِّن بشكل لا لبس فيه النهضة العسكرية الجديدة لهاتين القوتين من جهة، وتوجِّه تحذيراً ملموساً لواشنطن يؤكد لها وللجميع أن منطقة أوراسيا لم تعد تحت الهيمنة الأمريكية، وبالتالي فإن المحور الروسي- الصيني يسعى إلى التأكيد على أنه يشكل، انطلاقاً من تحالفاته التي هي الآن في طور التشكل وفي مقدمها منظمة شنغاي، بالإضافة إلى ما يسمى بمحور (4+1)، بديلاً جدياً لقوة الحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

وعليه فإن التدخل الروسي في سوريا لا يأتي فقط من أجل دعم حليف تقليدي لموسكو في المنطقة العربية، بقدر ما يمثل محاولة من الكرملين للرد على محاولات واشنطن اللعب في حديقتها الخلفية في كل من أوكرانيا وجورجيا، وفضلاً عن ذلك فإن روسيا تسعى، من خلال تحركاتها الأخيرة، إلى المحافظة على مصالحها المتعلقة بسوق الغاز في العالم، لاسيما بعد الاكتشافات الكبرى المتعلقة بحقول الغاز في شرق المتوسط. ومن غير المستبعد أن تحظى روسيا، في هذا السياق، بدعم خفي من طرف ألمانيا التي لا تحبّذ تهميش دول شرق ووسط أوروبا في معادلة حرب الغاز المقبلة، التي يمكن أن تستفيد منها دول الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.

ويذهب بعض المحللين إلى الاستنتاج أن الولايات المتحدة، مدفوعة برغبتها الكبيرة إلى المحافظة على مصالحها ومصالح حلفائها في بحر الصين، هي الآن مضطرة ولو جزئياً إلى أن تغض الطرف عن التحركات الروسية في شرق المتوسط، نظراً للأهمية الكبرى التي تمثلها الصين وجوارها الإقليمي بالنسبة للاقتصاد العالمي بشكل عام وللاقتصاد الأمريكي بشكل خاص، وتحديداً في هذه المرحلة التاريخية الحساسة التي تسعى فيها دول عديدة بقيادة روسيا والصين من أجل تخليص الاقتصاد العالمي بشكل تدريجي من هيمنة الدولار الذي يمثل الأداة الكبرى للقوة الأمريكية في العالم، وبخاصة بعد إقدام الصين بشكل مفاجئ على بيع جزء مهم من سندات الخزينة الأمريكية التي كانت بحوزتها.
وعلينا الاعتراف في هذا السياق بأن مقولة نهاية التاريخ التي نظّر لها فوكوياما قد تبخرت مع بداية تاريخ جديد تكتبه الآن قوى متعددة، بعضها تقليدي وبعضها الآخر يمثل جزءاً من القوى الافتراضية الناجمة عن انهيار قسم من الدول الوطنية في المنطقة العربية. ويمكننا أن نزعم أن الثنائية القطبية الجديدة التي بدأت ترتسم ملامحها ما بين روسيا والصين من ناحية، والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا من ناحية أخرى، لا تمثل إلاّ جانباً بسيطاً من المعادلة المعقدة التي هي الآن في طور التشكّل، والتي سيكون للمحور الأوراسي بقيادة روسيا والصين دور مؤثر وغير مسبوق في صياغتها، في مرحلة زمنية فارقة يغلب عليها الضعف العربي ويميّزها تراجع الأولويات المتعلقة بالأمن القومي العربي. أما بالنسبة لقرار الولايات المتحدة، إرسال قوات خاصة إلى سوريا، فلن يسهم - في اعتقادنا- إلا في ترسيخ فكرة تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ، وفي تأجيج حرب بالوكالة بين القوى الكبرى، بالشكل الذي يفضي في نهاية المطاف إلى إلغاء كامل للحدود الإقليمية الحالية لسوريا والعراق، وربما إلى ضياع الجولان بشكل كامل، أو إلى إلحاق هذا الجزء من الأراضي السورية إلى «كيان جديد» موالٍ للكيان الصهيوني تجسيداً لأحلام زعماء الاستخبارات الغربية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"