أخلاقيات الإيبولا

05:51 صباحا
قراءة 5 دقائق
بينما يُحكِم فيروس الإيبولا قبضته على رقعة واسعة إلى حد غير مسبوق من إفريقيا، يتساءل كثيرون ما إذا كان الوقت قد حان للبدء في إعطاء المصابين بالعدوى عقاقير ولقاحات لم تختبر بعد . ولأن هذا المرض قادر على قتل ما قد يصل إلى 90% من ضحاياه وهي نسبة أعلى من معدلات الوفيات الناجمة عن وباء الطاعون الدبلي فيبدو أن ما قد نخسره من تخفيف المعايير السريرية ضئيل نسبياً . ولكن هذا الاقتراح يثير تساؤلات أخلاقية بالغة الصعوبة ولا يسمح لنا إلحاح هذا الوضع المأساوي بحيز كبير من الوقت للمداولة .
أحد الأسباب وراء عدم وجود علاج أو لقاح مؤكد للحمى النزفية إيبولا هو ما تتسم به الأمراض "التعابرية" من مراوغة وخبث . ذلك أن هذه الأمراض تنتقل من الحيوانات، التي من الممكن أن تعمل بمثابة مستودعات يتطور فيها العامل المسبب للمرض ويتحور، الأمر الذي يجعل من الصعب على الباحثين ملاحقة السلالات المتغايرة للأمراض .
ولكن هناك سبباً آخر يتمثل في تضاؤل اهتمام شركات الأدوية بتصنيع اللقاحات . والواقع أن أربع شركات فقط اليوم تصنع اللقاحات، مقارنة بستة وعشرين شركة قبل خمسين عاماً . فهذه الشركات تعلم أن العائد على استثماراتها سيكون منخفضاً نسيبا، نظراً للفترة الطويلة التي تستغرقها عمليات التصنيع البطيئة (وإن كانت الطرق الجديدة الأسرع تعطينا بعض الأمل) .
كما لعب انعدام ثقة عامة الناس في اللقاحات دوراً كبيراً في هذا التراجع . ففي تسعينات القرن العشرين، تجلت المشاعر المعادية للقاحات في ردة فعل عنيفة ضد لقاحات الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية . وعلى نحو مماثل، أشارت دراسة مسح أجرتها أكاديمية نيويورك للطب في عام 2004 إلى أن عدد المتخوفين من الآثار الجانبية للقاح الجدري الذي أثبت كفاءته كان ضعف عدد المتخوفين من المرض ذاته .
والواقع أن السهولة النسبية في التعامل مع أمراض معدية مثل الجدري ساهمت في خلق درجة من الرضا عن حجم المخاطر المترتبة على رفض اللقاح . فعندما يبدأ وباء ما بالفعل، يسارع الناس إلى تغيير رأيهم ويطالبون بسرعة إنتاج وتوزيع اللقاحات . وربما كان هذا أمراً طيبا، ولكنه غير واقعي أيضا .
كانت شركة الأدوية البريطانية جلاكسو سميث كلاين أعلنت مؤخراً أنها تعمل بالتعاون مع المعهد الوطني الأمريكي للحساسية والأمراض المعدية على تطوير وإنتاج لقاح تجريبي لمرض الإيبولا . ولكن اللقاح يدخل للتو المرحلة الأولى من التجارب السريرية لاختبار السُمّية . ومع تبقي مرحلتين أخريين فإن اللقاح لن يكون جاهزاً للتوزيع قبل عام 2015 .
وقد استفز طول مدة عملية التجارب الشكاوى من الروتين المفرط . ولكن هذه الانتقادات لا أساس لها، لأن احتمالات تسبب العقاقير المقترحة في مرض خطير أو حتى الموت قائمة والواقع أن المرحلة الأولى والتي تسمى أيضاً "الدراسات الأولى على الإنسان" بالغة الخطورة ومعقدة أخلاقياً، وهذا يعني أن التعامل معها لابد أن يكون بأقصى درجات الحذر .
وفي عام 2006 اضطر الباحثون إلى وقف تجارب المرحلة الأولى من العقار TGN1412? عندما ظهرت على متطوعين كانوا من الأصحاء سابقاً أعراض فشل العديد من أجهزة الجسم، ونجا بعضهم من الموت بالكاد . ويعتقد تريفور سمارت من جامعة كوليدج في لندن أنهم ربما لا يتعافون أبداً .
ولكن ماذا نفعل عندما يتمكن المرض من أفراد مجموعة كبيرة من السكان بالفعل؟
في عام 1996 وأثناء انتشار كبير لوباء التهاب السحايا في شمال نيجيريا، زودت شركة فايزر للأدوية الأطباء بمضاد حيوي يؤخذ عن طريق الفم (تروفان)، والذي كان قيد الاختبار في مقابل دواء آخر، وهو سيفترياكسون .
وكانت النتيجة وفاة أحد عشر طفلاً أثناء تجربة تروفان، وأصيب آخرون بعجز دائم . ورغم هذا فإن معدل الوفاة نتيجة لتجربة تروفان كان أقل كثيراً من معدل الوفاة بين أولئك الذين تُرِكوا بلا علاج من التهاب السحايا، وهو ما يعزز من حجة طرح عقار الإيبولا غير المختبر اليوم .
الواقع أن منظمة الصحة العالمية أعلنت بالفعل أن استخدام المصل التجريبي ZMapp وهو عبارة عن مزيج من الأجسام المضادة المهندسة وراثياً والتي تهدف إلى مساعدة المرضى في مقاومة المرض لا ينافي الأخلاق . غير أن ZMapp لم يصل إلى مرحلة التجارب على البشر قط ولم يتم ترخيصه بعد من قِبَل هيئة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة .
وفي الوقت الحالي، هناك بضع جرعات قليلة من عقار ZMapp وسوف يستغرق الأمر عدة أشهر لإنتاج حتى كمية قليلة منه . وهذا يثير معضلة أخلاقية أخرى: من ينبغي له الحصول على هذا المورد النادر؟
لقد تناول أول ثلاث جرعات من عقار ZMapp اثنان من الأطباء التبشيريين وهما كنت برانتلي ونانسي وايتبول، واللذان تماثلا للشفاء، والقس الإسباني ميجيل باخاريس الذي توفى بعد ذلك مباشرة . وقد عرض البعض مبررات عملية لاختيار برانتلي ووايتبول، وهو الاختيار الذي أثار انتقادات واسعة النطاق: فمن المنطقي أن يتلقى العاملون في مجال الصحة العلاج أولا، حتى يتسنى لهم الاستمرار في مساعدة الآخرين . ولكن هذه الحجة تتهاوى إلى حد كبير باختيار القس باخاريس الذي كان في الخامسة والسبعين .
وقد اكتسبت المزاعم بأن الضرورة العملية هي التي دعت إلى هذا الاختيار بعض المصداقية بعد اتخاذ القرار بتقديم الجرعة لثلاثة أطباء أفارقة . ولكن المدد المتاح من العقار ZMapp استنفد على أية حال .
إن من الأهمية بمكان أن نلاحظ أن حتى الحجج البرجماتية حول تقنين الموارد الطبية النادرة قد تكون مثيرة للجدال إلى حد كبير . فأثناء الحرب العالمية الثانية، عندما اضطر أطباء الجيش إلى تقنين الجرعات المتاحة من البنسلين، قرروا إعطاء الأولوية الأولى للرجال المصابين بأمراض تنتقل بالاتصال الجنسي، بسبب إمكانية إعادتهم إلى ساحة المعركة بسرعة أكبر . ولكن كثيرين اعتبروا أن الرجال الذين أصيبوا في المعركة كانوا أكثر استحقاقاً للعلاج .
وبتطبيق هذه الحجة الأخلاقية على تخصيص علاج الإيبولا فقد يكون بوسعنا أن نزعم أن الأفارقة لابد أن يُختاروا قبل الغربيين، لأن أنظمة الرعاية الصحية في أفريقيا أقل قدرة على مكافحة المرض . ولكن لعلنا نستطيع أن نؤكد أيضاً أن العاملين الطبيين الغربيين يستحقون أولوية أعلى لأنهم تطوعوا لتعريض أنفسهم للمرض من أجل مساعدة هؤلاء الذين لا خيار لهم .
الحق أن مثل هذه الحجج تجعل التوصل إلى اتفاق في حكم المستحيل . والأسوأ من هذا أن استخدام معايير اجتماعية بدلاً من المعايير الطبية لتقنين العلاج هو في حد ذاته منحدر زلق . وما علينا إلا أن نتذكر لجنة "الرب" السيئة السمعة في سياتل، والتي قررت في أوائل ستينيات القرن العشرين تخصيص غسيل الكلى الذي كان نادراً آنذاك استناداً إلى معايير مثل الدخل والمواظبة على الذهاب إلى الكنيسة بل وحتى العضوية في الكشافة . ومنذ ذلك الوقت اكتسب استخدام معايير اجتماعية للعلاج سمعة سيئة وهي سمعة مستحقة .

دونا ديكنسون
أستاذة أخلاقيات مهنة الطب الفخرية في جامعة لندن
ينشر بترتيب خاص مع "بروجيكت سنديكيت"

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"