القرية التراثية.. كنز العادات والتقاليد

أحد أبرز معالم أبوظبي
06:14 صباحا
قراءة 6 دقائق
أبوظبي: «الخليج»
كانت «القرية التراثية»، ومنذ إشهار نادي تراث الإمارات، في 3 يونيو 1997، هاجساً وفكرة ملحة، لدى سمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، ممثل صاحب السمو رئيس الدولة «حفظه الله»، رئيس نادي تراث الإمارات، وبتوجيهات سموه الدائمة ومتابعته للإعدادات والإجراءات كافة، وحرصه على أن تصبح القرية حقيقة واقعة، تفضل سموه بافتتاحها رسمياً، يوم الجمعة، الموافق 20 إبريل 2001، في موقع استراتيجي في منطقة كاسر الأمواج في العاصمة أبوظبي، بجانب سارية العلم العملاقة، حيث تتمتع بإطلالة رائعة على كورنيش أبوظبي، متزامناً مع مشروع تراثي ثقافي، يجعل منها مركزاً ومنصة لتعزيز الهوية الوطنية والسياحة التراثية، وإبراز الجانب التراثي في دولة الإمارات العربية المتحدة، أمام الزائرين، وتحقيق أهداف النادي الاستراتيجية في تعزيز الهوية الوطنية، وغرس مفردات تراث الآباء والأجداد في الجيل الحاضر والأجيال القادمة، وتعريف زوار الدولة من المقيمين والزائرين والضيوف والسياح، بتراثنا العريق، وتفاصيل الحياة اليومية التي عاشها أبناء الدولة قبل مرحلة النفط.
اليوم لا تكتمل زيارة أبوظبي، من دون المرور بالقرية التراثية، التي أصبحت ثاني أبرز معالم أبوظبي التراثية والسياحية، بعد مسجد الشيخ زايد، ووجهة رئيسية في برامج السياحة، بعد أن وضعت المؤسسات والشركات السياحية، هذا المكان الأثير، على خريطة برامجها، لتستقبل يومياً ما بين 2000 و2500، من المواطنين والمقيمين، وأعضاء الوفود الرسمية الزائرة للدولة، والسياح الأجانب الذين يمثلون ما نسبته 75% من الزائرين، إلى جانب الوفود المدرسية والطلابية من الجامعات والمعاهد العليا في الدولة، حيث تتوافر لهم المعلومات الدقيقة حول مرافق ومشاريع ونشاطات القرية من خلال المدربين التراثيين التابعين للنادي، وحيث لا قيود على التصوير. ولمزيد من المعلومات، يستطيع الزائر الاستعانة بالمرشد السياحي في مكتب الاستقبال في القرية، لمعرفة الخدمات التي تقدمها شعبة خدمات الزوار بالقرية، ومنها: بالجولات السياحية والثقافية، وتزويد الزائرين بالبروشورات «النشرات» والكتيبات، من القرية والجهات السياحية والترويجية في الدولة، وغيرها من الخدمات.

لمسات إبداعية

أول ما يلفت نظر الزائر للقرية التراثية، التي تتوزع على مساحة تزيد على 16 ألفاً و800 متر مربع، تلك اللمسات الإبداعية في تصميمها المعماري الفريد، وفق طرز العمارة التقليدية، واستلهام جانب من طرز العمارة العسكرية في تصميم بوابتها، ومتحفها الذي تم تصميمه كنموذج لقصر الحكم في أبوظبي، وهو قصر الحصن، فيما تلمح جمال هذا التصميم المشيد على شكل قلعة أثرية، تزيد مساحته على 500 متر مربع، حيث تأخذك الخطى لمشاهدة الأدوات الزراعية والأسلحة، وأدوات صيد اللؤلؤ، ودلال القهوة العربية، والأزياء الفلكلورية، كما يضم المتحف في أروقته العديد من كنوز التراث، مثل أدوات الزينة النسائية القديمة، والحلي، وصور قديمة تجسد مراحل تاريخية، ومصكوكات إسلامية فضية وبرونزية وورقية قديمة، وأدوات صيد، وأسلحة قديمة وبخاصة البنادق، مع ركن خاص للمخطوطات النادرة، وركن الأرشيف التاريخي، كما ترى عدداً من نسخ المصحف الشريف مكتوبة بخط اليد. ويمكن أن تمتد متعة الزائر في المكان إلى مسرح أبوظبي، التابع للنادي، ويعد واحداً من المسارح الرئيسية في العاصمة، لجهة مستوى تصميمه وتقنياته ومرافقه وحجمه، يتسع لنحو 530 متفرجاً، مع خشبة مصممة وفق التقنيات العالمية.
من المثير للاهتمام، لكل من تطأ قدماه هذا المكان، أنه سيقف متأملاً جملة من الأركان والبيئات، التي تعكس حياة مجتمع الآباء والأجداد، أولها ركن البيئة البرية، لمتابعة تفاصيلها التي تشتمل على مختلف البيوت التي صممها وشيدها وسكنها الآباء والأجداد، وهي: «بيت أهل الواحات وبيوت الشعر»، إلى جانب «العريش»، الذي كان يستخدم صيفاً، في مناطق العين وليوا. حيث يشاهد في هذا الركن بيت اليواني، المصنوع من الخيش، والذي كان يستخدم صيفاً في البادية، وبيت الشعر الذي يصنع من صوف الغنم، وشعر الماعز، أَما العريش فقد بُني من سعف النخيل، واستخدمه في الماضي أَهل الإمارات، ثم هناك الحظيرة، التي تبنى من أَشجار«المرخ أو السّبط أو الرمث أو من الأشجار البيئية المتوافرة»، ويستخدمها أبناء البادية كمجلس للضيوف، لتقديم ضيافة القهوة العربية والفوالة وغيرها.
في القرية التراثية عالم ثري متكامل من المعرفة والتراث والتاريخ، يبدو هذا العالم جلياً في زيارة «المنطقة الأثرية»، التي تضم نماذج مصغّرة مثل: قبر الهيلي، مستعمرة هيلي، بدع بنت مسعود، مستعمرة أم النار، حيث يستطيع الزائر العودة بذاكرته إلى تايخ عمره 4000 عام، ثم يرمي بنظره ناحية بيت أهل الساحل في القرية التراثية، فيشاهد تصميم هذا البيت، الذي يضم «البارجيل»، حيث تعلو سطح البيت المغطى باليزايا المصنوعة من خوص النخيل، ليلتقط نسائم الهواء من الجهات الأربع، ويدخل إليها نظام التبريد الطبيعي.

وهناك متعة إضافية، تتحقق للزائر، بمشاهدة مكونات البيئة الزراعية، وتتصدرها «اليازرة»، وهي عين الماء التي كان يستخدمها المزارعون لري الأرض بواسطة الثور، ثم ينتقل للتمتع بمحتويات السوق الشعبية، وما تضمه من دكاكين تراثية، تعرض للزوار مجموعة من المنتجات التقليدية الجميلة، التي تفوح منها أصالة التراث وعبق الماضي، وبعض من التذكارات والمشغولات اليدوية، ما يتيح لهم اقتناءها وحملها إلى بلدانهم، بجانب متعة بصرية وتجربة تراثية عميقة، يمكن معايشتها من خلال زيارة سوق الحرف اليدوية، المعني بالإحياء والمحافظة على جملة من المهن التقليدية، وصونها من الانقراض بفعل التطور التقني، مثل: النجارة والحدادة والنقش على النحاس، والفخاريات والجلود والسجاد، والطب الشعبي، وصناعة البشوت، حيث ينجز هذه الصناعات في مشهد حي، أمام الزائرين، نخبة من أصحاب الخبرة والمهارة في هذا المجال، وفي المشغل النسائي في القرية، يتم تقديم عدد من الصناعات التقليدية، من خلال جهد مجموعة من الجدّات والخبيرات في مجالات المهن اليدوية التقليدية مثل: الغزل والنسيج بواسطة خامات متنوعة، مثل الصوف وسعف النخيل، وهناك حياكة البسط، وعمل الحصير والتلي والسدو وغزل الصوف، وغيرها من الأشياء التراثية، التي تذكْر الأجيال بتفاصيل الحياة آنذاك.

نجاح وتميز

لم تعد القرية وبعد كل هذه السنوات من التطوير والنجاح والتميز، والعمل بتوجيهات سمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، مجرد مكان أو متحف جامد لعرض التراث وحفظه ونشره، بل أصبحت مؤسسة متكاملة فاعلة، ضمن منظومة من النشاطات، تقوم إدارتها على تنفيذها، تحت مظلة العمل على تحقيق تطور دائم ينسجم مع التقدم المتسارع، للمجالات في الدولة والعالم كافة، لمواجهة التحديات التي يتعرض لها التراث والهوية، ومن ذلك إنجاز«مهرجان سلطان بن زايد التراثي البحري»، الذي يقام في شهر إبريل من كل عام، تزامناً مع احتفالات الدولة باليوم العالمي للتراث، ويهدف المهرجان، إلى تسليط الضوء على التراث البحري العريق للدولة، وترسيخ مبادئ وقيم وثوابت الهوية الوطنية، والتركيز على الدور الذي يلعبه القطاع البحري، في إثراء النسيج الثقافي والاجتماعي للدولة، وتعريف شرائح الجمهور والزوار، بالتراث البحري الغني الذي يتمتع به أبناء الإمارات، عبر سلسلة من المهرجانات والأنشطة التراثية والبحرية والسباقات البحرية بفئاتها كافة، وجميعها تجد متابعة جماهيرية متميزة على مستوى الحجم والاهتمام.

مرافق متنوعة

في هذا المكان البديع المحمّل بثراء التراث والأصالة، لا يمكن أثناء زيارتك تجاوز العديد من المرافق الخدمية، التي أعدتها إدارة نادي تراث الإمارات للزوار والضيوف، حيث خصصت للأطفال مساحة لممارسة الألعاب الشعبية القديمة، في منطقة الألعاب التي أعدت لهم. وفي الاستراحة التي ‏أعدت لتوفر ‏لك الهدوء، ستحظى بفرصة خاصة لا تتوافر في غير هذا المكان. وغير بعيد عن هذا المكان، يستقبلك «مطعم القرية التراثي»، المطل على كورنيش أبوظبي، كما يستقبل المطعم الضيوف والمشاركين في السباقات البحرية والفعاليات التي تحتضنها القرية، حيث الوجبات الشعبية المميزة، ومراسم ضيافة ضاربة في أعماق تاريخ الخليج. وفي كوخ تراثي اتخذ «مقهى القرية الشعبي»، مكانه على جانب أحد ممرات المكان، ليستقبل الضيوف، بمراسم ضيافة شعبية، مفتقدة في غير هذا المكان الآسر، الذي يؤمه الآلاف من المواطنين والمقيمين العرب والأجانب، ‏ناهيك ‏عن الوفود الرسمية والطلابية، والوفود السياحية، فقد ارتأت إدارة النادي أن توظف ذلك، لتجعل من القرية ‏احتفالية تلبي ‏جزءاً كبيراً من الرغبات الترفيهية والاحتياجات الثقافية لدى مختلف أفراد العائلة القاطنين في أرض الدولة، ‏ومحطة لتثقيف ‏عامة الناس بالتراث وربطهم به، وأن تجعل منها أيضاً منارة للسياحة التراثية، عبر مختلف النشاطات التي تقدمها خلال العام.

بعد إنساني

لا تخلو مرافق القرية، من ذلك البعد الروحي الإنساني، المتمثل في «مسجد القرية»، المشيد على طراز العمارة الإسلامية، والتقليدية، من حيث الزخارف المحفورة على أبوابه ونوافذه، في وسط المكان، كمؤشر لبيت العبادة، الذي يتلازم مع الإماراتي في كل عهوده، وأينما أقام، ويمكن لزائري القرية التراثية، الوقوف عند مسجد القرية للاطلاع على تفاصيل بنائه، والمسقوف بأعمدة الجندل، بالإضافة إلى الجريد الميرود، ومشاهدة مئذنته بطرازها المحلي القديم، وأروقة الصلاة والمُصلى فيه، وهو نموذج مستوحى من المساجد القديمة، حيث إن أغلبية المباني القديمة من مساجد وأسواق، تسقف بدلاً من الجندل، بجذوع النخيل، وبدل الجريد الميرود، يكون الحصير المستورد من القصب.

معيار الجمالية

من اللافت اليوم أن القرية التراثية أصبحت تجذب السائح الأجنبي قبل العربي، ربما لأن الأجانب يجدون فيها شيئاً جديداً بمعيار الجمالية والذائقة الفنية، وكانت القرية تدفع من يراها إلى أن يقارن بين الماضي والحاضر، ثم إن مشهد الكورنيش المطل كخلفية لها ربط بين التراث، وما وصلت إليه إمارة أبوظبي في المجال العمراني، ومن هنا جاءت فكرة بناء القرية، كنوع من التشبث بالهوية المحلية، وزرع الولاء وحب الوطن في قلوب الناس، وهكذا تبدو القرية اليوم صرحاً تراثياً ثقافياً نوعياً، وهي تغفو بأمان وثقة على الشاطئ، بأسلوب عمراني يجمع بين الزخرفة الإسلامية، وآخر ما توصلت إليه الحضارة العمرانية من أساليب في البناء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"