معضلة الفساد بين الديني والدنيوي

00:28 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

تعيد الفضيحة الأخيرة التي هزت أرجاء دولة الفاتيكان، إلى الأذهان العلاقة الغامضة والملتبسة التي تربط رجال الدين بعالم المال والأعمال، عالم يجعل التداخل بين الديني والدنيوي أمراً يكاد يكون حتمياً حتى داخل الأوساط التي اختارت أن تكرّس كل حياتها الدنيوية للعبادة وخدمة قضايا العقيدة والدين.

وتشير هذه الفضيحة الجديدة المتعلقة بتسريب وثائق حساسة إلى الصحافة الإيطالية، إلى أن عالم رجال الدين في الفاتيكان يعجّ بالكثير من القضايا المرتبطة بتحويل أموال وإعطاء امتيازات غير مشروعة لشخصيات نافذة، وثغرات تتعلق بالميزانية إضافة إلى مسائل أخرى ذات صلة بملفات التوظيف والإنفاق، وتسيير الممتلكات العامة لأصغر دولة في العالم، ولا شك أن الكثيرين ما زالوا يتذكرون أن فضيحة مماثلة كانت سبباً مباشراً في دفع البابا السابق بنديكت السادس عشر إلى الاستقالة، الأمر الذي يطرح تساؤلات عدة بشأن توالي الفضائح الأخلاقية والمالية التي تضرب الأوساط الدينية في أوروبا، والغرب عموماً.
قد يذهب الكثيرون منا إلى القول إن هذه الفضائح تقتصر على هذا المنبر المسيحي الكاثوليكي الذي خلق نظاماً بيروقراطياً معقداً لرعاية مصالح المؤمنين بهذه العقيدة في كل أصقاع العالم، لكن النظرة الموضوعية للأحداث والتطورات التي يعرفها العالم تشير إلى أن مسألة التجاوزات التي يرتكبها بعض رجال الدين، أو العاملين في الحقل الديني، لا ترتبط بوجود نظام كهنوتي أو بوجود ما يسمى بالإكليروس فقط، ولكنها وثيقة الصلة بالخطورة الناجمة عن قيام بعض المحسوبين على المجال الديني بالغوص في مستنقع المال والأعمال وتوظيف كل ذلك من أجل تحقيق مكاسب سياسية بعيداً عن روح الدين وجوهر العقيدة، من منطلق أن الإنسان، وبصرف النظر عن انتمائه وعن عقيدته، ضعيف أمام مغريات الحياة ومباهجها، ولا يمكن بالتالي أن ندافع عن فرضية أن من يشتغلون في الحقل الديني معصومون من الوقوع في الخطأ والزلل.
لا شك في أن المشكلات التي تحدث في الحقل الثقافي والديني الإسلامي تختلف اختلافاً كبيراً عما يحدث من فضائح وتجاوزات في العالم المسيحي، على اختلاف طوائفه ومذاهبه الدينية، لكن المعضلة الكبرى التي بدأت تقض مضاجع عالمنا الإسلامي، وتتسبب بالكثير من الفتن والحروب، تتعلق بالدرجة الأولى بجماعات الإسلام السياسي المحسوبة على المنظومة الدينية بمعناها الواسع، فعلاقة هذه الجماعات بعالم المال، وتحديداً بعالم المال السياسي، وباقتصاد البازار لا يمكن إغفالها أو التقليل من خطورتها على مستقبل الدول الوطنية، وعلى مصير الأمة الإسلامية بشكل عام. إذ تلجأ هذه الجماعات إلى توظيف الدين من أجل استقطاب أصحاب رؤوس الأموال بهدف خدمة مشاريع وأجندات لا تتماشى مع مبادئ وأسس الدول التي ينتمون إليها، حيث باتت سلوكات هذه الجماعات تشبه من حيث مظهرها العام، أسلوب عمل الشركات المتعددة الجنسيات العابرة للدول وللقارات، من منطلق أن هذه الجماعات لا تؤمن بالحدود الوطنية، بل وتدعو إلى ضرورة تجاوزها وصولاً إلى تشكيل كيانات موازية للدول الوطنية.
نستطيع في هذه العجالة أن نقدم أمثلة عدة عن توظيف جماعات الإسلام السياسي للمال من أجل إفساد الحياة السياسية والدينية على حد سواء، فحركة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر منذ بدايات القرن الماضي، استطاعت أن تراكم عبر سنوات عدة، ثروة مالية ضخمة نافست بواسطتها، وما زالت تنافس، سلطة الدولة في المجال العمومي، وفي جميع الصعد من خلال «جمعيات خيرية» تختفي وراء شعارات دينية براقة من أجل استقطاب الأتباع والمريدين الذين ينساقون بسلاسة كبيرة وراء الخطابات التي تحمل صبغة دينية، بالنظر إلى براءة وصدق الفطرة الدينية لدى عموم المؤمنين في عالمنا العربي - الإسلامي. لقد استطاعت حركة الإخوان أن تتحوّل في وقت وجيز من حركة دعوية بسيطة إلى ما يشبه دولة موازية كاملة الأركان، لها مصالحها التجارية والمالية والصحية والتعليمية المتغلغلة في كل مفاصل الدولة المصرية، ولم يكن ينقصها في عهد الرئيس المخلوع محمد مرسي، إلا السيطرة على المؤسسة الأمنية والعسكرية من أجل استكمال سيطرتها على كل مفاصل الدولة المصرية.
والشيء نفسه يحدث الآن مع نظام رجب طيب أردوغان في تركيا الذي يعمل، من خلال سعيه إلى تعديل الدستور، إلى استكمال سيطرته على أغلب مؤسسات الدولة التركية، بعد أن شرع خلال السنوات الأخيرة في استبعاد معارضيه، وفي مقدمهم خصمه اللدود فتح الله غولين. ويمكن القول إن ما حدث في مصر، وما يحدث في تركيا سبق أن حدث في دول عربية عدة، مثل الجزائر، التي سعى فيها أقطاب التيار الديني إلى توظيف المال السياسي من أجل استقطاب قطاعات واسعة من المجتمع الجزائري، ونجح إلى حد بعيد في تأسيس كيان دولة موازية يملك رجالها من المال ما لا تملكه شركات ومؤسسات اقتصادية عريقة، ويتذكر الكثيرون أن القسم الأكبر من الأموال التي كانت تجمع من ذوي البر والإحسان من أجل بناء المساجد كانت توجّه من أجل دعم الجماعات المسلحة المرابطة في جبال وشعاب تضاريس الجغرافيا الجزائرية الشائكة.
من الواضح أننا تعمّدنا الحديث في هذه المقاربة السريعة لهذا الموضوع المعقد، عن معضلة وليس عن مشكلة، أو حتى عن إشكالية الفساد المالي ما بين الديني والدنيوي، فالمعضلة تتميز من حيث تعريفها بكونها غير قابلة للحل، أو بأن حلها يتسم بصعوبة بالغة، نظراً للتركيب والتعقيد الذي تتميز به؛ إذ من الصعوبة بمكان أن نمنع تدفق الأموال عن مجموعات تحترف توظيف الخطاب الديني من أجل خدمة مصالحها، في مجتمعات لا تنساق في الغالب إلا لمن يحسن الترويج لواجهة دينية براقة، نظراً للضعف الهائل في بنية المجتمع المدني، ولهشاشة ثقافة المواطنة لدى أفراد لا يؤمنون بفضائل تطوير منظومة العقد الاجتماعي التي يُفترض أن تربط بشكل وثيق الحكام بالمحكومين في دولة مدنية ترعى وتدافع عن مصالح كل أبنائها، بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية والمذهبية. وعليه، فإن ارتباط الديني بالدنيوي لا يمثل في حد ذاته مشكلة وجودية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة، فلطالما رددنا أن الإسلام دين ودنيا، ولكن المشكلة تكمن في التوظيف السياسي للدين، وفي علاقة جماعات الإسلام السياسي بعالم المال والأعمال، وفي سعي هؤلاء إلى تحويل اقتصاد البازار والدكاكين إلى اقتصاد دولة حديثة، لأن السياسة في زعمنا ليست شأناً دنيوياً بالمعنى الذي تحيل عليه ثنائية الدين والدنيا، بقدر ما هي شأن مؤسسي ودولوي في حاجة إلى كفاءة الخبراء والمتخصصين، وليس إلى شطحات المرتجلين للخطب المنبرية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"