الريادة المغيبة لبلند الحيدري

مرايا الزمن
05:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

ينتمي الشاعر العراقي الراحل إلى الجيل نفسه الذي ينتمي إليه من عرفوا بشعراء الحداثة الرياديين في العراق والذي يضم إلى الحيدري كلاً من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي . لا بل إن ثلاثة من هؤلاء، وهم الحيدري والبياتي والسياب، مولودون في العام ذاته وهو العام 1926 . على أن صاحب خفقة الطين ورحلة الحروف الصفر وأغاني الحارس المتعب لم تتح له فرصة الدخول إلى دار المعلمين العليا كما حدث لأقرانه الآخرين بل انه بعد المرحلة الثانوية عمد إلى تثقيف نفسه بنفسه محاولاً أن يتجاوز النقص الحاصل في دراسته الجامعية عن طريق القراءة والاطلاع والتفاعل مع الحركات الشعرية والفنية الجديدة في بلاده كما في محيطه العربي .

ولم يكن الفارق بين الحيدري وزملائه الشعراء محصوراً في التحصيل الدراسي أو السيرة الشخصية بل تعدى ذلك ليطال التجربة ذاتها حيث يتبين لقارئ الشاعر الراحل أن لغته الواقعية الجانحة إلى الدقة وعباراته القصيرة البعيدة عن الترسل الغنائي وصولاً إلى الاشتغال على الأصوات عن طريق التكرار والابطاء والتسريع الايقاعيين وتقطيع أوصال المفردات لغايات درامية أو بسيكولوجية قد وضعته في خانة مغايرة نسبياً لأقرانه ومجايليه .

على أن الحيدري الذي آثر منذ يفاعته التواضع والتواري والابتعاد عن المعارك الطاحنة حول الريادة والأسبقية التاريخية بين السياب والبياتي ونازك ما لبث قبل وفاته بقليل أن دخل على خط المزاحمة على الأسبقية الذي شغل بوجه خاص كلاً من السياب ونازك في ما آثر البياتي أن ينازل السياب في ساحات أخرى بعضها شعري وبعضها سياسي وعقائدي . فقد ذهب الحيدري في مقابلة له مع الشاعر العراقي هاشم شفيق إلى أن السجال بين السياب والملائكة على الاسبقية هو سجال باطل من أساسه لأن بعض قصائد ديوانه خفقة الطين المكتوبة وفق نظام التفعيلة كُتبت في وقت سابق على قصيدتي الكوليرا وهل كان حباً لكل من الملائكة والسياب، وبالتالي فإن الشاعرين الآخرين يتنازعان على حقيقة لا يمتلكانها وريادة ليست لهما في الأصل .

بصرف النظر عن هذا الزعم فإن المرء لا يمكنه إلا أن يتوقف ملياً عند التفاوت في الشهرة وذيوع الصيت كما في المتابعة والاهتمام النقديين بين شعراء الريادة الثلاثة، السياب ونازك والبياتي، وبين الرابع المغبون والمغيب إلى حد بعيد . فهل الأمر متعلق بأسباب شعرية بحتة أم بدخول الترويج العقائدي والماركسي بالتحديد، لكل من السياب والبياتي والترويج الموازي للملائكة بوصفها الحالة الأنثوية النادرة التي نافست الذكور في مغامرة الريادة؟ وهل كان صاحب حوار عبر الأبعاد الثلاثة يحدس عبر عنوان مجموعته المميزة بأنه لن يكون رابع هذه الأبعاد بأي وجه من الوجوه .

إن من يتابع تجربة الشاعر بإمعان سرعان ما يكتشف أن الحيدري لا يستحق هذا القدر من التنكر والاجحاف . فهذه التجربة تمتلك من الفرادة والخصوصية ما يجعلها تنأى بنفسها عن الشائع والمألوف في اطار الكتابة الشعرية الحديثة . انها تجربة تقوم على التأمل واكتناه الحقائق ومساءلة الوقائع والاشياء لا على الفوران الانفعالي والغناء الرخو والانشاء الفضفاض . ثمة محاولة لدى الحيدري للدخول إلى المدى الحيوي الذي يشغله الفكر والفلسفة والتبصر في الكينونة والوجود . ثمة استقراء واضح للفلسفة الوجودية وما يستتبعها من اسئلة الحرية وقلق الاختيار ولكن كل ذلك لم يمنع الشاعر من الاحتفاظ بنضارة القصيدة وحيويتها عبر السرد والمسرحة وتقطيع الجمل وتفكيك الكلمات نفسها بما يعكس قلق الشاعر وحيرته وتصدعات روحه .

لا نستطيع تبعاً ذلك ان نضع تصريح الحيدري حول تقاسم الريادة مع السياب وحول أسبقية بعض قصائد ديوانه الأول خفقة الطين على قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة في معرض النرجسية والمباهاة وادعاء الريادة بقدر ما هو صرخة احتجاج على تغييبه وتذكير محق بدوره الطليعي في تأسيس القصيدة العربية الحديثة . فالحيدري اكثر حكمة ونضجاً من أن يدخل في هذه المعمعة الشكلية التي لا تحدد وحدها قامات الشعراء ولا تعكس قيمتهم الحقيقية، اذ ليس أمراً بالغ الاهمية أن تكون نازك قد سبقت السياب بأسابيع معدودة إلى كتابة قصيدة التفعيلة أو أن يكون قد سبقهما إلى ذلك بلند أو البياتي . ولقد سبق للشاعر اللبناني فؤاد الخشن أن ادعى الأمر ذاته فيما ألصق آخرون الأسبقية بعلي أحمد بكثير .

المهم في هذا الاطار هو الاستمرارية والاضافة والوصول بالانعطافة إلى نهاياتها وإلا كانت الأسبقية عارضة وغير جديرة بالاهتمام .

التواضع هو ما ميز بلند الحيدري طوال حياته التي لم تدم طويلاً والتي توزع فصلها الأخير بالتساوي بين الصمت والمنفى . وسواء سبق أقرانه إلى كتابة القصيدة الحرة الأولى أو لم يسبق فهو شريك أساسي في مغامرة التجديد ولا بد لمغامرته تلك أن تجد أصداءها الملائمة في مستقبل الأيام .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"