المهاجرون العرب ودولهم الفاشلة

05:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

أبداً يزدادون عدداً وينتفخون ظاهرة ويجسدون بؤس العالم كله. ادخل الباصات لتجدهم الأكثرية الجالسة والواقفة: لباسهم رخيص ومتواضع، وجوههم متعبة يطفح فوق ملامحها الحزن والذل، يحملون أكياسهم الرثة المليئة بالأكلات التي عمرها يحتضر وبالألبسة الباهتة المثقلة بالعاهات. قم بزيارة شوارع الحواري وشاهدهم يمشون بانحناءة الرأس والظهر وثقل الخطو والاستسلام للقدر البائس، فلا أحلام في العيون الغائرة ولا أمل ولا طموح في الحركة.

كما تنزح المجتمعات العربية الدم والقيح والعار تنزح أجساد هؤلاء اللاجئين والنازحين والمهمشين إلى شواطئ بلدان العالم وإلى أحياء الفقر في كبريات مدنها سنة بعد سنة وتتبارى مع نفسها ومع غيرها على مدى قدرتها على النزح المستمر وعلى النبع الذي لا يجف. لكأن المهاجرين والهاربين هم ضحايا حفلات قرابين لآلهة الطمع والاستغلال والنهب والتهميش والاذلال من قبل قوى شيطانية في مجتمعات بلدانهم.

هل نحن بصدد صورة مبالغ في تصويرها؟ أبداً، إذ دعك من القلة الثرية المهاجرة بمحض اختيارها، ودعك من المهنيين والفنيين القادرين على الحصول على عمل مجز وثابت، فالحديث هنا هو عن المظلومين المهمشين البسطاء من ضحايا الاحتلالات الامبريالية والصهيونية وافرازات الحروب الأهلية والمنسيين في جحيم البطالة العربية الهائلة والمقموعين من قبل أجهزة الأمن العربية. هؤلاء هم الذين إما يعيشون على الاعانات الحكومية المتواضعة وإما يقبلون بأبسط الأعمال وأشقاها من التي لا يقبل سكان تلك البلدان ممارستها والتي تدر دخلاً بالكاد يكفي لأساسيات الحياة.

لكأن تلك المآسي لا تكفي لتضاف إليها حملة كراهية متعمدة الأوجه لهوياتهم وثقافتهم ودينهم سواء من قبل العنصريين الفاشيين أو من قبل أبواق الصهيونية في كل وسائل الإعلام الغربي التي يسيطرون عليها. ولا شيء أكثر من الكراهية والتعصب يدفع تلك الجموع العربية الشقية للانعزال والانغلاق على الذات وعدم الاندماج في تلك المجتمعات، الأمر الذي يولد حملات خوف وريبة من وجودهم، وهكذا بدأت التقارير والكتب تتحدث عن إمكانية مثلاً أسلمة أوروبا بعد خمسين سنة وتنادي باغلاق أبواب الهجرة أمام هؤلاء. وعندما يتفاعل الخوف المجنون مع الكراهية الظالمة

تتهيأ النفوس لارتكاب الجرائم والموبقات بحق الآخرين.

وأخيراً، لكأن ذلك لا يكفي ليضاف القنوط من المستقبل، إذ إن تغير الاحوال في بلاد العرب ليعود إليها هؤلاء شبه معدوم في المستقبل المنظور. ثم ليضاف إليها الشعور بالحسرة وهم يرون مثلاً دول مجلس التعاون تعج باستضافة أكثر من عشرة ملايين من العاملين الأجانب غير العرب في الحياة الاقتصادية الخليجية في حين يضطرون هم لتجرع غصات الغربة في بلدان لا ترحب بهم وتخاف منهم وتمارس رذيلة الكراهية وآفة عدم التسامح ضدهم وضد أولادهم.

قضية هؤلاء الملايين من العرب والمسلمين الذين يهيمون على وجوههم في مزارع ومصانع ومطاعم الآخرين بسبب فشل الدولة العربية في تدبير متطلبات الأمن الإنساني لهم، من غذاء وسكن وعمل وصحة وتعليم وكرامة إنسانية وحقوق أساسية، تزداد تفاقماً وتعقداً بينما تهاجر البلايين من الدولارات العربية إلى الخارج لتنعش حياة الآخرين وتضيف إلى حياتهم الترف والبحبوحة.

المسؤولون العرب، الذين يتنقلون في تلك البلدان في سيارات فاخرة ولا يحتاجون لركوب الباصات والمشي في الحارات الفقيرة البائسة، لن يروا وجوه الشقاء والذل والهوان العربية، وبالتالي لن يحدث أي شيء لإخراجهم من جحيمهم. فماذا عن المجتمعات العربية لتنقذ هؤلاء وأجيال المستقبل من الدولة العربية الفاشلة؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"