ضد افساد الشعر

صوت
04:31 صباحا
قراءة 3 دقائق

- 1 -

هذا المد العولمي يريد تحويل الشعر، إلى خطاب تكميلي تابع للإعلام والاستهلاك المبتذل. أي تحويله إلى لعبة تدر الأرباح على أصحابها فقط، من خلال هذا النوع من الدعايات الرخيصة والمكشوفة. وبهذا الشكل يكون الشعر، قد فقد استقلاليته وحريته، وسلم رأسه لمن لا يعرف قيمته، وقبر صوته الآخر الذي هو جوهره في الأصل. لهذا نلحظ مثلاً، بأن الشعر في المنطقة العربية بالخصوص، قد استشرت فيه حمّى الجوائز والمسابقات وتوزيع الألقاب المضحكة؛ كما تم بسبب هذه الموجة استثارة أوهام وتورمات لا أول لهما ولا آخر. لقد أصبح الشّعر في الخطاب الإعلامي شعر بروزة وبراويز، وليس شعر تجارب صميمية ونصوص كبرى. شعر متاحف وتماثيل شمعيّة، وليس شعر تجريب وتجديد وتوليد حركات شعرية جديدة مثلاً. شعر عداوات غبارية وتكفيريات وعصبيات وآفاق مسدودة في الغالب. شعر يمجد فيه الشاعر على حساب الشعر، حتى ولو كان شعره لا يساوي ثمن الورقة التي كتب عليها. شعر نجوم وصخب وجماهير، تصنعهُ البوربغندا من روحها العمياء. شعر ينفي الشعر، يخنقه، ويخفي صوته الحقيقي، ويعادي جوهره العميق

- 2 -

خط الشاعر الاماراتي عبدالعزيز الجاسم بيانه الشعري الموسوم ب ضد افساد الشعر بمناسبة اليوم العالمي للشعر، ذاهباً لفضح المسكوت عنه في حركة الشعرالعربي، ومؤدياً دوره الكشفي في اضاءة احالات مهمة لتوصيف مدى الشعر وتحديد اتصاله الحقيقي بمصدره العارف وايقاعه الجلي، كونه نغم الكون وتجليات الصمت.

انطلاقا من كون الشاعر هو الموهوب الأول لتنقية المفردات من شوائب العالم واسراجها بنور كريستال الروح، شبه ومضات شعرية تتقد لتكاشف ما يحدث له وللكون معاً.

ثمة انزياحات تعبيرية شديدة الأهمية يتلوها البيان عند درجة تصويبها وادانتها ونقدها الجارح لما يحدث.

ليس سراً تفشي كل هذه المواكب المسرجة بهوادج المديح والكرنفالات النقدية والنفاق العلني الذي استشرى، وليست ظواهر جديدة تعم العالم، فهي مشيدة منذ الأزل، وواكبت الحركة الشعرية ضمن صيرورة لا مفر منها تتمثل في التنوع في الاسهامات الابداعية وتفرد الندرة وعادية الكثرة، لكن الجدة التي حدثت في راهننا تمثلت في تماهي التجارب الشعرية الموكول لها بقيم التفرد والينوع بتلك الظاهرات الكرنفالية، بل خضوعها لاشتراطات البهرجة الاعلامية والتلميع الانطباعي.

- 3 -

صراع الشعر مع الشاعر إذاً، يستمد قوته من هذه الأرض، أرض الأصوات والأصول الضائعة للأشياء في الكون. ففي هذه الأرض، وعليها، وعبرها، تولد لغة الشاعر. أي اللّغة الثانية للعالم على لسانه، وليس لغة ما هو عامي ويومي ومبتذل. الشاعر بهذا المعنى إذاً، يعمل ضد نسيان أصول الأشياء وأصواتها الغائبة، حيث يعيد لها الحياة والنضارة ويبعثها من موتها ونسيانها من جديد. لهذا، فهو بالتحامه بالعالم ونبشه في تلك الأصول القزحية، يعيد للحياة لغتها ونورها وبراءتها وتألقها وحبّها وطفولتها المنسية. إنه يصنع ديمومة الحياة والعالم، ويقف من خلال إيمانه بالقوى الروحية للشعر ضدّ قوى الفناء والزوال والرعب والآلية والابتذال، وضدّ الصدأ الذي يهدد تصورنا للحب والحقد، للتمرد والمصالحة، للإيمان والسلبية. لأن الشاعر، بحسب تعريف غاستون باشلار، هو دليل طبيعي للميتافيزيائي الذي يرغب في فهم قوى الاتصالات اللّحظية كلّها، وحماسة التضحية، من غير أن يترك لازدواجية الذات والموضوع الفلسفية الفظّة أن تقسمه، ومن غير أن يترك لثنائية الأنانية والواجب أن توقفه.

المكاشفة التي اعلنها عبدالعزيز جاسم لا تعني بلداً ما، بل تختص بحقيقة الخراب التي تتعرض له الثقافة والابداع في زمن عربي يحيا بامتياز المحو لكل ما هو رصين وعميق كالشعر في ليله الطويل.

www.fawzia-alsindi.com
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"