هيئة الشارقة للآثار.. ذاكرة التاريخ

تحمل جدرانها أسراراً وحكايات
02:50 صباحا
قراءة 5 دقائق
الشارقة -أمل سرور

هنا يجلس التاريخ متربعاً على عرشها، يحكي لنا قصصه وأساطيره عن الأجداد.
هنا على ذلك الجزء الأصيل من عاصمة الكتاب والثقافة الإسلامية والسياحة والصحافة العربية، تستطيع أن تتأمل جلياً مبنى هيئة الشارقة للآثار الذي افتتحه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، منذ أيام والذي يحمل جدرانه الكثير من الأسرار والحكايات من خلال المقتنيات الأثرية المكتشفة في مدن ومناطق إمارة الشارقة، والتي تحمل في مضمونها ثقافة منطقة «مليحة» التي تعد من أهم المواقع الأثرية ليس في إمارة الشارقة فحسب بل في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية.
تُرى ما طبيعة عمل ذلك الصرح التاريخي وما المهام التي يقوم بها، وماذا تخفي أبوابه من مقتنيات ومختبرات ومعدات؟
أسئلة كثيرة نحاول الإجابة عنها عبر جولتنا بين أروقته التي ننقلها في سطور مقبلة.
البداية كانت عندما أصدر صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، القانون رقم (2) لسنة 2017، بشأن تنظيم أهداف وصلاحيات واختصاصات هيئة الشارقة للآثار التي تهدف إلى تحقيق البحث والتحري عن المواقع الأثرية المنتشرة في الإمارة، وتثبيتها على الخريطة الأثرية، والقيام بعمليات التنقيب وتنظيم أعمال بعثات التنقيب الأثري الأجنبية العاملة في الإمارة من خلال الإشراف والتنسيق والمشاركة معها، بالإضافة إلى مراقبة الآثار ومتابعة صيانتها والتصرف بها وفقاً لأحكام القانون.
هكذا بدأ د.صباح جاسم، مدير هيئة الشارقة للآثار حديثه الحميم لنا عندما استقبلنا بمكتبه بالهيئة، وقبل أن نبدأ في التجوال عبر أروقة ومقتنيات الهيئة، استكمل جاسم حديثه بالقول: إن دورنا الرئيسي يكمن في حماية المواقع الأثرية التي تنتشر من الساحل الغربي للخليج العربي، والمنطقة الوسطى والساحل الشرقي ابتداء من كلباء مروراً بخورفكان وحتى دبا، فالمواقع كثيرة ومتعددة وتنتشر في جغرافيا واسعة، وتعود إلى فترات زمنية مختلفة خاصة مع التنوع الحضاري المتميز الذي مرت به الشارقة عبر سلسلة متعاقبة من العصور، لذا فإن مهمتنا الرئيسية تبدأ بتنصيب أسوار، ووضع نقاط حراسة عليها، ووضع خطط مدروسة للتنقيب، وتدريب الكوادر المحلية من أجل القيام بالتنقيبات التي تستمر طوال العام، وهذا يأتي من خلال ندوات ومؤتمرات ومحاضرات أكاديمية، ورحلات ميدانية للمواقع الأثرية القديمة.
الأوعية الفخارية
ما أن أنهى مدير هيئة الشارقة للآثار حديثه حتى بدأت جولتنا في أنحاء الهيئة، لنشهد مجموعة من الأواني البرونزية وقد تربعت على عرش الردهة الطويلة للهيئة، وهي تلك التي تم اكتشافها في مواقع أثرية مختلفة، وتؤرخ إلى الألفيتين الثالثة والثانية قبل الميلاد، وبجانبها عدد من الأوعية الفخارية المصبوغة.
نلتفت حولنا فنجد نماذج لافتة من المكتشفات في موقع مليحة، الذي يعتبر من المواقع الأثرية الفريدة ليس في إمارة الشارقة فحسب بل في منطقة الجزيرة العربية بأكملها، ويدلنا د. جاسم على تلك المقتنيات قائلاً: قالب صب المسكوكات المصنوعة من الفضة والبرونز وهي تلك التي تمثل تقليداً لمسكوكات الإسكندر الأكبر، هذا بالإضافة إلى المسكوكات الذهبية التي تعود إلى الإمبراطور الروماني «تبريوس».
تركت عالم الأواني والمسكوكات لأقف أمام ذلك النموذج الذي صمم لواجهة قبر مشيد بالحجارة، ليجيء صوت د. صباح جاسم شارحاً: لقد نُقش عليه باللغتين العربية الجنوبية والآرامية اسم الشخص المدفون وسلالته ووظيفته، وهو كاهن ملك«عمان»، ويشير إلى الفترة الزمنية التي تم تشييده فيها، وهي القرن الثالث قبل الميلاد، وهذه المرة الأولى التي يظهر فيها اسم «عمان» مقترناً بتلك الفترة الزمنية، وقد عزز هذا الاكتشاف الذي تحقق حديثاً أهمية مليحة، ومكانتها التاريخية في منطقة جنوب شرقي الجزيرة العربية، ولقد ضم هذا القبر مجموعة من اللقي الأثرية المهمة، من بينها صحن من خليط النحاس مزين بنقوش بارزة ومحزوزة، تمثل مشاهد معقدة لحيوانات أسطورية مختلفة.
مشاريع سياحية
قاطعت مدير الهيئة بالقول: نلاحظ أن معظم المقتنيات من منطقة «مليحة».
أجابني بلا تردد: إن موقع مليحة عمره يصل إلى ملايين السنين، عندما عبر الإنسان الأول مضيق باب المندب قادماً من شرق إفريقيا كي يستقر فترة في كهوف الجبال، ليرتحل بعدها إلى أصقاع العالم الأخرى في أوروبا وآسيا.
المواقع الأثرية في منطقة مليحة تتمتع بسجل أثري متواصل يقدم مادة تاريخية خصبة للباحثين والسيّاح وهواة الآثار، ولا أبالغ عندما أقول إنها منطقة تفتح نافذة على حضارات يرجع تاريخها إلى مئات الآلاف من الأعوام وصولاً إلى فترة ما قبل ظهور الإسلام، كانت خلالها مليحة مهداً للحياة الريفية، وجزءاً أساسياً من طرق القوافل التجارية، وهو ما منحها تواصلاً دائماً مع باقي الحضارات التي نشأت في حوض البحر المتوسط وجنوب آسيا وجنوب الجزيرة العربية وشمالها، إضافة إلى وادي الرافدين ومناطق شرق الجزيرة العربية، ولم تنته اكتشافاتنا عند هذا الحد بل إن تنقيباتنا مستمرة والمشاريع السياحية في المشروع سوف تفاجئ الجميع خاصة أن تلك الاكتشافات الأثرية جعلت المنطقة جديرة بترشيحها لتكون موقعاً للتراث العالمي من قبل اليونيسكو، وهذا بالطبع سيساعد في المحافظة على المواقع الأثرية المميّزة التي يعود تاريخ بعضها إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وحماية البيئة الفطرية.
إمبراطورية الرومان
يعود بنا د. جاسم لنستكمل جولتنا، خاصة عندما لفت أنظارنا مجموعة من النماذج المجسمة لعدد من القبور والمدافن الأثرية التي تؤرخ إلى فترة العصر البرونزي في الألف قبل الميلاد، والمشيدة تحت سطح الأرض في منطقة جبل الفاية، أشار مرافقنا مدير هيئة آثار الشارقة إلى ذلك النموذج الضخم الذي يتربع على عرش صالة العرض قائلاً: إنه موجود في دبا الحصن، ويضم رفات عدد من الهياكل العظمية البشرية، وكان زاخراً بالهدايا الجنائزية المتنوعة، مثل القوارير الزجاجية والفخارية والمجوهرات الثمينة المستوردة من أقاليم الإمبراطورية الرومانية، خلال القرن الأول الميلادي، والتي تشير إلى مكانة هذا الميناء البحري وأهميته الاستراتيجية في شبكة التجارة الدولية في ذلك الوقت.
أجمل ما تضمه صالة عرض هيئة الشارقة للآثار هو تلك النماذج الفنية لرسوم صخرية، تمثل مشاهد صيد وأشكالاً بشرية حيوانية، تنتشر على المناطق الجبلية الممتدة على طول الساحل الشرقي.
المختبر
صمت د. جاسم ليسير عبر ردهة طويلة ليصل بنا إلى تلك الغرفة التي كُتب عليها «المختبر»، ما أن فُتح بابها الموصد حتى وجدنا أنفسنا وسط معدات هائلة، وبقايا صغيرة لقطع من الأواني الفخارية والزجاجية، ومجسمات من الأحجار تُظهر بعضاً من الكتابات الآرامية، قبل أن يبدأ مرافقنا حديثه استطعنا أن نستشعر بأننا في غرفة الكواليس التي لا يراها أحد، تلك التي تشهد مجهودات جبارة من قبل الخبراء المتخصصين في مجال ترميم الآثار، لكي تطل علينا في آخر مشوارها بتلك الإطلالة المبهرة التي رأيناها في صالة عرض الهيئة.
قطع الصمت صوت د. صباح قائلاً: المختبرات في عالم الآثار تهدف إلى مواكبة التطورات الهائلة في تلك العلوم والأنثروبولوجيا وصيانة المصادر التراثية، لا سيما ما يتعلق منها بتطبيق الأساليب العلمية الحديثة في دراسة الإنسان ومخلفاته الحضارية. وهذا ما جعلنا نضم للهيئة تلك الغرفة التي تسهم أيضاً في تدريب الكوادر البشرية المؤهلة علمياً وفنياً لحماية التراث الحضاري والحد من الأخطار الطبيعية والبشرية التي تهدده. ولتحقيق هذه الغاية فقد تم تجهيز تلك الوحدة بأحدث الأجهزة والمعدات العلمية والطاقات البشرية المؤهلة في مجالات صيانة وترميم الآثار وتحليل المواد الأثرية بالطرق العلمية واستخدام نظم المعلومات الحديثة في دراسة وحماية وتطوير المواقع الأثرية، بالإضافة إلى أنها تسهم بشكل فاعل في تقديم العون الفني للبعثات الأثرية المحلية والأجنبية التي تعمل باستمرار، وتقوم كذلك باستقبال المواد الأثرية المستخرجة من الحفريات لغايات تحليلها وصيانتها وترميمها.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"