الدين والحداثة والعلمانية

05:22 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

ظللت أقرأ له لعدة سنوات معجباً بفكره العميق مبهوراً بإلمامه الواضح بالمدارس الفلسفية المختلفة إلى أن قرأت مقالًا لصديقي وزميل دراستي الدكتور أسامة الغزالي حرب يتحدث فيه عن (صلاح سالم) الذي تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والتحق ب«الأهرام» ثم أصبح كاتباً متفرداً بقيمة كتبه ومقالاته، وقد أبدى الدكتور حرب في مقاله إعجاباً شديداً بذلك الشاب الواعد بصورة أصابتني بقدر كبير من الارتياح، إذ إن كاتباً كبيراً يشاركني الرأي في الإشادة بذلك المفكر المصري، ثم جاءت فرصة بعد ذلك لكي أتعرف إليه وأزداد إعجاباً به. بل لقد عرضت إحدى كتبه في هذا المكان ذات مرة منذ عدة شهور، وقد أحزنني كثيراً أنه جرى طرح اسمه مرشحاً لإحدى جوائز الدولة في المجلس الأعلى للثقافة فلم يلتفت إليه ولم يحصل على الجائزة لأن الكثيرين لا يعرفونه فهو كاتب نخبة فضلاً على أنه لا يجيد صنعة بيع الذات والترويج لنفسه مثلما يفعل الآخرون.
ولقد تمنيت عليه مؤخراً أن يجمع شتات مقالاته الأخيرة حول (الدين والحداثة والعلمانية) بين دفتي كتاب ففعل مشكوراً، بل وأضاف إلى ذلك إهداء يسبق المقدمة ويظل مطبوعاً في كل نسخه من الكتاب يقول فيه (إلى الأب الكريم والمفكر السياسي المرموق د. مصطفى الفقي من أوحى لي، وتمنى عليَّ بضرورة وضع تلك الملفات بين جلدتي هذا الكتاب) ممهوراً بتوقيعه (صلاح)، ولقد تأثرت بهذا الكرم من ذلك المفكر الصاعد والفيلسوف الواعد، وبدأت أتجول بين صفحات الكتاب لأجد أنه قد بذل مجهوداً في تضفير المقالات التي تعالج الموضوع الواحد حتى لا يكاد المرء يدرك أن ما في الكتاب تجميع لمقالات جرى نشرها من قبل، وهو يقول في أحد الفصول الأولى لذلك الكتاب القيم «ينبع إيماننا بوجود أخلاقية إنسانية عابرة للأديان والثقافات من انتظام قوانين ضرورية موحدة وتفصيلية على غرار قواعد قوانين العلم الطبيعي، وهي تظل متجانسة وتعكس خبرة المجتمعات في صيرورتها الدائمة وحكمة التاريخ في اطراده الأبدي»، ثم يضيف قائلًا «إن الأخلاق الوضعية المؤسسة على العقل - ليست بالضرورة نقيضاً للأخلاق السماوية القائمة على الإيمان، اللهم إلا إذا كان الدين محرفاً أو كان العقل مراوغاً فالمفترض أن يكون تكامل العقل مع الإيمان سبيلاً إلى إدراك خلقي أعمق).
إن هذا الفيلسوف المصري يقطع الطريق على أولئك الذين يقيمون حواجز مصطنعة بين الأديان، ويقول إن (مارتن لوثر) أحد الآباء الكبار للبروتستانتية قد طرح سر التوبة ونظر إلى التعميد والعشاء الرباني، فالمؤمن الذي (يتناول) يكون على اتصال بروح المسيح ثم يمضي قائلًا: «إن فرويد حاول أن يدلل على أن الدين ليس حقيقة تاريخية بل وهماً إنسانياً صاحب المسيرة البشرية في لحظات ضعفها وحيرتها»، وهنا يبرع المفكر الفيلسوف (صلاح سالم) في إبراز طبيعة التيار المادي الذي جعل (ماركس) يرى أن الدين أفيون الشعوب، ووصل بفرويد إلى اعتباره وهماً إنسانياً.
وقد تطرق الكاتب إلى العلمنة السياسية ورأى فيها ضرورة أساسية لأي مجتمع ديمقراطي لا تقوم للحرية قائمة في غيابها، إذا العلمنة الوجودية لا تقف عند تنحية الدين عن المجال السياسي العام بل أيضاً إلى نفيه من الوجود الاجتماعي وحرمانه من دوره في صياغة معظم القيم السائدة. ثم ينتقل في كتابه (ملفات فكرية) إلى دراسة الدولة المدنية بين العلمانية السياسية والشمولية الإسلامية فيقول: «إن من يرى أن الشريعة هي مصدر الشرعية وليس الأمة إنما يفتح باباً يؤدي تلقائياً إلى الدولة الدينية وفيها ينمو الكهنوت السياسي والتطرف الديني، ولذلك فإننا نؤمن بأن علمانية الإسلام تحديداً هي علمانية سياسية وليست وجودية»، ثم يدلف إلى أرض الواقع قائلًا «لقد اختصرت مصر عبر حكم الجماعة وسقوطها المدوي -عد عام واحد - عقوداً طويلة كانت مطلوبة حتى تكتسب هذه العملية زخمها الحقيقي، ولو أن الجماعة ظلت في موقع المعارضة كما كانت طوال العقود ال8 الماضية أو أنها شاركت في الحكم بنصيب محدود لا يعرضها للانكشاف الذي جرى لها أو وقعت هي فيه بتأثير رغبتها في الاستحواذ السياسي السريع، حيث أدى انفرادها بالحكم إلى وضع كل شعاراتها في أتون الواقع كما نزع عنها قوة السحر التي غلفتها لعدة عقود حتى جرى وضعها تحت مقصلة الحقيقة». ثم يختتم المؤلف كتابه الرائع والشامل قائلًا: «وهكذا يبتعد الإنسان المعاصر أكثر وأكثر عن كونه ذاتاً مركبة، ويصبح أكثر خضوعاً للبيئة المحيطة، وأقل قدرة على المواجهة الفعالة لأشكال التسلط ومراكز الهيمنة التي امتدت أذرعها العنكبوتية في شتى المجالات».
هذه شذرات من كتاب (ملفات فكرية في الدين والحداثة والعلمانية) يطرحها صلاح سالم علها تجد صداها في أروقة الفلسفة والفكر والثقافة وتضع صاحبها في الموقع الذي يستحقه بين أبناء جيله، بل وتدفع به إلى مقدمة الصفوف. فهو واحد من كتاب «الأهرام» الدائمين ولا يمكن إغفال حقه بدعوى (أن شاعر الحي لا يطربه). وبالمناسبة فقد اعترفت به جوائز خارجية وبقي وطنه عاجزاً عن تقديره!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"