العراق: مزيد من “الحوار” ومزيد من العنف

04:43 صباحا
قراءة 4 دقائق

قبل أيام عقد في العراق مؤتمر للحوار الوطني، في غياب ومقاطعة ممثلين سياسيين بارزين من أهمهم قائمة العراقية برئاسة اياد علاوي والحزب الديمقراطي الكردستاني( البرزاني) . المؤتمر دعا إليه ائتلاف دولة القانون، وهو الحزب الحاكم في العراق وشهد مشاركة واسعة لأطياف سياسية واجتماعية . وهذا ليس المؤتمر الأول من نوعه الذي تشهده بلاد الرافدين . المقاطعون الذين شككوا في وجود إرادة سياسية لوضع حد للعنف والذين أعادوا للأذهان انعقاد مؤتمرات مماثلة سابقة من دون نتائج عملية تذكر، تمنوا للمؤتمر النجاح . وقبل أن يجف حبر الموقعين على ميثاق شرف وطني ومبادرة سلم اجتماعي، كانت موجة من العنف قد تجددت بسيارات مفخخة في الأسواق واستهداف دور عبادة وبيوت عزاء . الطابع الطائفي لهذه الموجة الجديدة شديد الوضوح، وللأسف الشدبد فإن وجهة العنف هذه ليست جديدة بدورها بل تكاد تكون تقليدية وشبه دائمة . وبينما ترمي أطراف سياسية رئيسية بعضها بعضاً بالنزوع الطائفي، فإن هذا السجال لا ينعكس إيجاباً على الوضع الأمني الذي يزداد تفاقماً . ولا يتوقف الأمر عند التدهور الأمني المتمادي، فقد أخذت البلاد تشهد بصورة علنية موجات من الترهيب والتهجير والفرز المناطقي على أساس طائفي في البصرة والكوت وحزام بغداد والناصرية، وقد عبّر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عن أسفه لهذا التطور الذي سبق انعقاد المؤتمر العتيد .

هذا الوضع المتردي أقصى العراق عن دائرة الاهتمامات الاقليمية والدولية وأفقد هذا البلد وزنه ومكانته، وكما هو حال المرء المصاب بمرض مزمن، الذي يفقد شيئاً فشيئاً اهتمام المحيطين القريبين منه بمرضه .

يستذكر المرء هنا أن موجة احتجاجات واعتصامات شعبية اندلعت منتصف هذا العام، بما مثّل تجسيراً وطنياً عابراً للطوائف بين مختلف الفرقاء بما في ذلك الفريق الحاكم، وقد قوبل هذا التطور بعنف شديد من قبل السلطات، مع أن التفاعل الإيجابي مع المحتجين كان من شأنه ان يشكل حواراً وطنياً جدياً يضع البلاد على عتبة الخروج من الدائرة المغلقة . لكن السلطات تفضل كما يبدو حوارات تجمع نُخباً سياسية وأمراء الحرب الداخلية، وتجذب أضواء إعلامية باهرة حتى لو لم يكن لها مفاعيل ملموسة على أرض الواقع .

وهنا تتبدى المحنة المتطاولة لهذا البلد، مع انسداد الأفق السياسي فيه والعجز عن التعبير عن إرادة وطنية جامعة، وتشعب الأذرع الأمنية الرسمية الرديفة، وغير الرسمية من ميليشيات منظورة وغير منظورة، علاوة على الأذرع ذات المصدر الخارجي . وعلى ما خلّفه الاستهداف الطائفي من ضغائن متبادلة ومن إرث استمراء الاحتراب، بما يسد الطريق على أية قوى وطنية مدنية لتدارك سوء الأوضاع وإعادة إحياء الروابط الوطنية . إذ إنه من الأسهل تجييش الناس على أساس الغرائز الطائفية والاستقطاب المناطقي والعشائري، بدلاً من الالتقاء على جوامع وطنية عامة تتجاوز الانتماءات الفرعية والأولية .

والغريب خلال ذلك أن هذا الانحدار لا يحرك ساكناً لدى الفريق الحاكم، فمسلسل الأزمات الخانقة المتلاحقة التي تستنزف الثروات الطبيعية والبشرية وتهدد المصير الوطني برمته، لا تحمل هذا الفريق على الاعتراف بالإخفاق الذريع، وعلى الإقرار بنصيبه من مسؤولية هذا الإخفاق، والإفساح في المجال أمام تداول السلطة مع أفرقاء وشركاء آخرين، بما يسهم في تحقيق انفراجة ملموسة . فهذا الفريق يتصرف كما كان حال النظام العراقي السابق، كأنه حاكم إلى الأبد، وأن كل الخسائر الوطنية المهولة لا تثير القلق ولا قيمة لها أمام اغتنام السلطة . ليس هناك أي حديث عن الرجوع إلى الشعب والاحتكام إليه، أو الشروع في إجراء انتخابات برلمانية جديدة تفتح الطريق أمام تمثيل أوسع للرأي العام، مع ما يتطلبه ذلك من أهمية تسريع الانتهاء من مشروع قانون الانتخابات المنظور منذ أشهر من مجلس النواب، ولكن هناك حديثاً عن اجتثاثات جديدة تطال أو تهدد إفرقاء أساسيين في غمرة أجواء الحوار الوطني الأخير .

وهناك أيضاً اهتمام بوضع مقترحات لمعالجة الأزمة السورية وتحذيرات من امتداد ألسنة نيران هذه الأزمة إلى داخل العراق . واقع الحال أن أياً من أفرقاء الأزمة السورية لم يتوقف أمام دعوات وقف إطلاق النار وإجراء حوار شامل، وتشكيل حكومة ترضى عنها السلطة والمعارضة التي تقدمت بها الحكومة العراقية . أكثر من ذلك فإن أفرقاء سوريين يحذرون بصيغ شتى، وفي مناسبات مختلفة من عرقنة الوضع السوري وهو ما يثير القناعة بأن خروج الوضع في العراق من عنق الزجاجة، والتقدم على طريق الوفاق الوطني في هذا البلد، يقدم أفضل مثال قابل للاستلهام لإنهاء الأزمة السورية . أما مع استمرار الوضع العراقي على حاله، فإنه يصعب أن يأخذ أحد مثل هذه المقترحات المتعلقة بسوريا مأخذ الجد . فالأولى أن تتجند الحكومة العراقية لمعالجة الأزمة الطاحنة التي يقترن استمرارها وتفاقمها باستمرار الحكومة الحالية .

واللافت أن شغور مركز الرئاسة الذي كان يملؤه جلال الطالباني، لا يثير تحركاً دستورياً لملء هذا الفراغ، الذي بات يملؤه تلقائياً الفريق الحاكم ممثلاً برئاسة الحكومة التي تستحوذ على السلطات . . وتدع المتحاورين وغير المتحاورين يقولون ما يشاؤون بينما تفعل هي كل ما تملك يمينها لتأبيد سلطتها .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"