عادي

صباح فخري.. أسطورة الموشحات والقدود الحلبية يعزف لحن الوداع

14:56 مساء
قراءة 5 دقائق
صباح فخري

الشارقة - الخليج
غيّب الموت، الثلاثاء، إحدى قامات الغناء الباسقة في سوريا والعالم العربي، وأسطورة الموشحات والقدود الحلبية الشهيرة، الفنان القدير صباح فخري عن عمر ناهز 88 عاماً، بعد أن خلّف وراءه إرثاً فنيّاً ثميناً، وتقاسيم عذبةً تناجي المشاعر وتعانق الروح.
صباح فخري، واسمه الحقيقي صباح أبو قوس، من مواليد مدينة حلب منتصف العام 1933، وقد تربّع على عرش الغناء العربي التراثي لأكثر من نصف قرن، قدّم خلاله 347 عملاً غنائياً، منها 110 أعمال من الطرب القديم.
في سنّ العاشرة، اكتسب فخري من والده وعدد من أصدقائه، مثل بكري الكردي ومصطفى الطراب وعمر البطش وصبحي الحرير، كل ما يتعلق بعلوم النغمات والأوزان، وبعدها بعامين، غنى صباح فخري أول موشح خاص به وهو "يا هلالا غاب عني واحتجب".
انطلاقة
بدأ فخري بالعمل مع علي الدرويش، وولديه إبراهيم ونديم، اللذين لحنا له بعض الأغنيات وعلماه عزف العود، ليرافق بعدها عازف الكمان سامي الشوا في حفلاته بمدينة حلب وغيرها من المدن السورية، وهناك تعرف عليه فخري البارودي الذي انبهر بغنائه، فتبناه فنياً وألحقه بالمعهد الموسيقي الشرقي، وهناك تعلم من عمر البطش ومجدي العقيلي وعزيز غنام، الأدوار والنظريات الموسيقية والإلقاء الغنائي بواسطة الصولفيج، والمقامات وأساليب الانتقال فيما بينها، وكذلك الإيقاعات والموشحات ورقص السماح، وفن غناء القصيدة الأصولي، ليتلقاه الملحنون فور تخرجه، وتبدأ مسيرة مطرب ناشئ لكنه عظيم، اسمه صباح فخري، بعد أن تكنى باسم متبنيه فخري البارودي، الذي وضعه في بداية طريق المجد الفني.
اشتد عوده وازداد تعلقه بالإنشاد والتجويد من خلال مجالسته كبار منشدي الطرب الأصيل واجتاز امتحانات غنائية صعبة على أيدي "السمّيعة" الذين يتمتعون بآذان لا تخطئ النغم وتكشف خامات الصوت وتجري اختبارات حتى لكبار الأصوات آنذاك مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم اللذين زارا حلب للغناء على مسارحها في ثلاثينيات القرن الماضي.
وقد ساهمت "خوانم" أو نساء ذلك الزمن بصعود نجم الفتى حيث أن من العادات الاجتماعية لسيدات حلب تحديد موعد شهري لكل سيدة تستقبل فيه من ترغب من معارفها وتكون الدار مفتوحة على الغناء والعزف والرقص وهو ما كان يسمى "القبول" وصارت النساء يطلبنه للغناء في هذه التجمعات.
التحق بالمدرسة الحكومية الحمدانية في حلب وهناك برز تفوقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة.
سيرة وتراث
يروي كتاب (صباح فخري سيرة وتراث) للكاتبة السورية شدا نصار أبرز مراحل حياة فخري على مدى عقود حيث تقول الكاتبة إن الفنان سامي الشوا تعهده بالرعاية وغير اسم الفنان الناشئ إلى "محمد صباح" واصطحبه معه في جولات غنائية بالمحافظات.
ولم يكد محمد صباح يبلغ الثانية عشرة من عمره حتى وجد نفسه يغني في حضرة رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي خلال زيارته إلى حلب عام 1946 ما اعُتبر محطة مصيرية قفزت بفتى الموشحات إلى خارج حدود حلب.
رفض محمد صباح العرض الذي قدم له بالسفر إلى مصر آنذاك لصقل موهبته وآثر البقاء في دمشق والغناء عبر إذاعتها الرسمية. وتقول الكاتبة شذا نصار إن السياسي المخضرم النائب فخري البارودي كان قد أسس معهداً للموسيقى في دمشق وأعجب بخامة صوت محمد صباح الفريدة وتوقع لها مستقبلاً ساطعاً.
وتضيف الكاتبة: "في إحدى الحفلات الإذاعية المباشرة على الهواء والتي كان يقدمها المذيع صباح القباني شقيق الشاعر نزار قباني، أراد النائب فخري البارودي أن يتبنى المطرب محمد صباح ويعطيه لقبه، فقدم المذيع المطرب باسم صباح فخري".
وبمساعدة موسيقية من الفنان عمر البطش وضع صباح فخري أولى تجاربه في التلحين عن عمر لم يتجاوز 14 عاماً، وكانت أنشودة (يا رايحين لبيت الله / مع السلامة وألف سلام / مبروك عليك يا عبدالله / يا قاصد كعبة الإسلام).
جاءت أول أدوار فخري القديمة من ألحان سري الطنبورجي وهو حمصي المنشأ سكن في دمشق وعمل بائع أحذية، وتقول الأغنية: (أنا في سكرين من خمر وعين/ واحتراق بلهيب الوجنتين/ لا تزدني فتنة بالحاجبين/ أنا في سكرين)، وقد غدت هذه القصيدة ملتصقة باسم صباح فخري بعد أن أضاف إليها من روحه في اللحن والكلمة.
لكن انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب تسبب في حشرجة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء إذ يقول الكتاب إن هرمونات الرجولة غيرت من طبيعة صوته وتكوين حنجرته، والذي بدا كالمبحوح.
وتقول نصار: "لعبت الحالة النفسية لصباح دورها السلبي. كلما حاول أن يرفع عقيرته للغناء كان يفاجأ بشخص آخر يغني من حنجرته. إنه ليس صوتي. لست أنا. ما الذي حصل؟ كلها تساؤلات كان يضج بها رأس الشاب الذي بدأ يشعر بفقدان أغلى ما وهبه إياه الخالق".
استراحة
في سن الخامسة عشرة أطبق صباح فخري على صوته واعتزل الغناء مكرهاً، فراح يبحث عن لقمة عيشه في الترحال بين قرى ريف حلب إلى أن التحق بالخدمة العسكرية عندما أصبح شاباً يافعاً.
وتقول الكاتبة: "مع اكتمال رجولته تبلورت حنجرته واكتمل تكوينها لتعيد للكنز الدفين تألقه، وعاد صوت صباح فخري الرجل يشق لنفسه مكاناً بين ذكريات سنين المراهقة في أحياء حلب وبيوتها".
عاد فخري إلى أضواء الشهرة من بوابة إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق وما كان يعرف بخيمة حماد التي غنى فيها مع المطربة اللبنانية صباح، وهناك قدم الموال بالقدود الحلبية وغنى (مالك يا حلوة مالك) و (يا مال الشام ويالله يا مالي /طال المطال يا حلوة تعالي).
غنى صباح فخري (نغم الأمس) مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري، حيث سجل ما يقرب من 160 لحناً ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال، وقد حافظ على التراث الموسيقي العربي الذي تتفرد وتشتهر به حلب.
سجل فخري المسلسل الإذاعي (زرياب)، كما لحن وغنى العديد من القصائد العربية، حيث غنى لأبي الطيب المتنبي وأبو فراس الحمداني ومسكين الدارمي ولابن الفارض والرواس وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب. وقف في عام 1974 أمام الفنانة وردة الجزائرية بطلاً لمسلسل (الوادي الكبير) الذي تم تصويره في لبنان.
أوسمة ونياشين
تقلد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة عام 2007 "تقديراً لفنه وجهده في الحفاظ على الفن العربي الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الفني العربي الأصيل" كما جاء في منشور التكريم، كما حاز العديد من الجوائز، من بينها جائزة الغناء العربي من الإمارات، وسام التكريم من سلطنة عمان، وسام تونس الثقافي، جائزة مهرجان القاهرة الدولي للأغنية، والجائزة التقديرية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، كما أسس محبوه في مصر سنة 1997 جمعية فنية تحمل اسمه.
سجل الراحل رقماً قياسياً من خلال غنائه على المسرح مدة تتجاوز عشر ساعات متواصلة دون استراحة في مدينة كراكاس الفنزولية عام 1968، وشغل مناصب عدة بينها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من دورة ثم نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب، كما انتخب عضواً في مجلس الشعب السوري في دورته التشريعية السابعة لعام 1998.
تختزل مسيرة الراحل صباح فخري تراثاً ضارباً في العراقة، جمع فيه الفنان القدير نفحات من روح الأندلس وتقاسيم من قلب حلب وقدودها وموشحاتها، وروي عنه أنه يحفظ أربع سفن "دفاتر"، حيث تحتوي كل سفينة على ألف موشح، وبحسب كتاب للباحث التونسي إلياس بودن، فإن حصيلة صباح فخري الفنية تحتوي 347 عملاً غنائياً، منها 110 من الطرب القديم التي لا يعرف لها ملحن، و66 عملاً لحنها وغناها صباح، وتشمل موالات وقصائد وموشحات، كما غنى من ألحان غيره نحو 87 موشحاً لملحنين سوريين ومصريين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"