شقاء الإنسان أو سعادته من صنع يده

القرآن دستورنا
13:20 مساء
قراءة 6 دقائق

القرآن الكريم هو دستور حياة المسلمين، لم يترك صغيرة ولا كبيرة من أمور دينهم ودنياهم إلا ونظمها تنظيماً دقيقاً ووضع دستورها، وصدق الحق سبحانه حيث يقول: ما فرطنا في الكتاب من شيء .

ومن الحقائق التي أرشدنا إليها القرآن الكريم أن رغد العيش وضنكه من صناعة المجتمع الإنساني، وليس أمراً مفروضاً على الإنسان، فكلما ارتبط الإنسان بمنهج السماء وسار المجتمع على الطريق الذي رسمه الخالق لعباده كان الاستقرار النفسي والاجتماعي والاقتصادي، وكان رغد العيش الذي يتطلع إليه الإنسان . . يقول الله تعالى في سورة النحل: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .

هذه الآية الكريمة تؤكد كما يقول د .القصبي زلط، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين بالأزهر، عضو هيئة كبار العلماء إن الإنسان يصنع واقعه ويتحكم في مستقبله، فمن عمل عملاً صالحاً، بأن كان خالصاً لوجه الله، وموافقاً لما جاء في كتابه العزيز وما جاء به رسوله الكريم؛ عاش حياة طيبة، وسعد براحة البال وسعادة الحال، وعلينا أن نعتبر هنا قوله سبحانه: وهو مؤمن، فهو يعني أن العمل لا يكون مقبولاً عند الله سبحانه وتعالى إلا إذا كان قائماً على العقيدة الصحيحة .

والمراد بالحياة الطيبة في الآية الكريمة الحياة الدنيوية التي يحياها المؤمن إلى أن يقضى أجله .

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: هذا وعد من الله سبحانه لمن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا . . والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت .

وقصة القرية التي تحولت من حياة الاستقامة والالتزام إلى حياة الفسق والانحراف فتبدلت أحوالها خير مثال على ذلك . . يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة النحل: وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .

وأياً كان مكان هذه القرية والمقصود بها، فقد أرشدنا القرآن الكريم إلى أن القرية التي كانت آمنة مستقرة في كل أمور حياتها تعيش حياة رغدة، هذه القرية التي أنعم الله عليها بكل النعم حوّلت حياتها إلى بؤس وشقاء بعد أن خرجت على منهج الله، وكفرت بالنعم ولم يقم أهلها بواجب الشكر ولم يحرصوا على طاعة الله، فكان العقاب الإلهي لهم: . . .فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .

سنة إلهية لا تتبدل

أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، د .يوسف إبراهيم، يؤكد أن الدستور الذي وضعه الله لآدم عندما أهبطه إلى الأرض يتمثل في أن من يتبع الهدى الذي يأتيه من الله فلا يضل ولا يشقى، ومن يعرض عن هذا الهدى فله المعيشة الضنك في الدنيا، وله العقوبة القاسية في الآخرة .

يقول الحق سبحانه في سورة طه: قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا . ونحشره يوم القيامة أعمى . قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا . قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

هذه هي التوصية الأساسية لآدم عليه السلام وبنيه من بعده عندما أهبطه الله إلى الأرض ليقوم بدوره كخليفة، وهي التوصية التي كانت في شكل سنة إلهية لا تتبدل ولا تتحول وتنطبق لا محالة إذا تحققت مقدماتها، فمن يتبع الهدى الذي يأتيه من الله على يد أي من رسله، فلن يضل ولن يشقى، ومن يعرض عن هذا الهدى فإن له ضنك المعيشة في الدنيا، وعدم الاهتداء والعمى في الآخرة، ولا تجد لسنتنا تحويلا، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وعلى أساس من هذه السنة ستكون معاملة الله تعالى لذرية آدم عليه السلام، في أجيالها المتعاقبة، فمن ساروا على منهج الله تعالى جلبوا لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة، ويعيشون في الدنيا حياة طيبة، يظللها العدل ويغلفها التكافل والتراحم، ويسودها الإيثار والمودة، ويفوز الناس في ظلها بخيري الدنيا والآخرة، ويحوزون عاجل الخير وآجله . ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم .

حياة لا تطاق

ويضيف: هذه هي سنة الله في جانبها الأول، جانب اتباع المنهج الإلهي، والسير عليه، وتعظيم الله تعالى وتوقيره، واللجوء إليه في السراء والضراء، والعيش في كنفه، والتمسك بهديه .

أما الإعراض عن هدي الله فإن عواقبه وخيمة: إنها معيشة ضنك في هذه الدنيا، يظللها الخوف ويكتنفها الشقاء من كل جانب، وهي معيشة توغل في الضلال على شتى المستويات، المستوى الاقتصادي حيث ينخر الربا في اقتصادها، والمستوى الاجتماعي حيث ينخر التحلل والتفسخ في جذورها وكيانها، والمستوى الثقافي حيث ينخر الكذب والنفاق والرياء والتضليل في مقوماتها، فيحيل الحياة إلى جحيم لا تصلح به حياة ولا تستقيم معه أحوال، والمستوى التشريعي حيث ينخر الهوى والظلم في مؤسساتها، وتغيب العدالة عن شؤونها، فيتظالم الناس، ويأكل بعضهم حقوق بعض، وعلى المستوى السياسي، حيث تغتصب السلطة وتستلب الحقوق، ويوسد الأمر إلى غير أهله، فيقرب الفاجر ويمكن، وينفى التقي ويبعد . وعلى المستوى الأخلاقي، حيث تنقلب المعايير الخلقية، ويهزأ بالقيم فيؤمن الخائن، ويخون الأمين، وعلى كل المستويات يظهر الفساد، في البر والبحر، في الأنفس والمجتمع، في النظم والتشريعات، ذلك أن الناس ضلّوا عن المنهج، وتنكبوا الطريق القويم وتخلوا عن الهدي الذي جاءهم من الله تعالى، فحقت عليهم السنة الإلهية التي قررها الله تعالى في وحيه إلى آدم عليه السلام: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى، فالإعراض عن هدي الله تعالى في الحكم والاقتصاد والاجتماع والمعاملات وسائر المجالات، هو الذي يقود الأمة إلى التبعية والذل والهوان سياسياً، وإلى الضنك وسوء الأحوال اجتماعياً، وإلى ضعف الإنتاج وارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى المعيشة اقتصادياً، وإلى التفسخ والتحلل والتميع والغش والخداع والتطفيف وأكل أموال الغير بالباطل، وبخس الناس أشياءهم أخلاقياً .

تلك سنة الله تعالى علمها آدم وبنيه من بعده، تنطبق عليه وعليهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

مراجعة مطلوبة

والسؤال المهم هنا وبعد الوقوف على هداية النصوص القرآنية السابقة: هل نراجع أنفسنا ونصحح علاقتنا بخالقنا؟

إن الواقع الذي يحيط بنا يؤكد إعراضنا عن هدي الله تعالى، في أسلوب الحكم والاقتصاد والتشريع والأخلاق والتربية والإعلام وغيرها، ويفرض علينا أن نعود إلى دستورنا الخالد نستلهم منه العلاج ونلتمس منه الحل .

الأمة الإسلامية كما يقول د .القصبي زلط أعزها الله بالإسلام، وعاشت حياة طيبة عندما أقامت الصلاة وآتت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، ثم فرّطت في الهدي الذي أُعطي لها من ربها فحقت عليها السنة التي لا تحابي ولا تتحول ولا تتبدل، وتحولت أحوالها من النقيض إلى النقيض عما كانت عليه من قبل . ولقد صدق سيدنا عمر رضي الله عنه عندما قال مستلهماً هذه السنة الإلهية: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، ولن يرفع عنا ما نحن فيه إلا إذا عدنا إلى الهدي الذي جاءنا من ربنا على يدي آدم عليه السلام من قبل ومحمد صلى الله عليه وسلم أخيراً .

إن الشقاء الذي نفته الآية الكريمة عمن يتبع هدي الله، سيصيب من يعرض عن هذا الهدي، فهو ثمرة الإعراض لا محالة يجنيها المعرض عن ذكر ربه، ولو كان غارقاً في متاع الدنيا، فما يضل الإنسان عن هدي الله تعالى إلا ويتخبط في القلق والحيرة الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس . ولن تستقر نفس العبد وتطمئن إلا في رحاب الله تعالى، واتباع هداه .

فهل نعود إلى منهج الله ليتحقق لنا رغد العيش والحياة المطمئنة التي نبحث عنها؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"