فرنسا وإيطاليا.. صراع المصالح

02:32 صباحا
قراءة 4 دقائق
بهاء محمود *

من حين لآخر تشتعل حرب التصريحات الإعلامية، بين فرنسا وإيطاليا، يتزعمها نائبا رئيس الوزراء الإيطالي، «دي مايو»، و«سالفيني»، والممثلون لليمين الشعبوي والمتطرف في إيطاليا. والمتابع للتصريحات العدائية من الجانب الإيطالي يجدها دائماً ما تبرز أوجه الخلاف بين جناحين أحدهما مؤيد للاتحاد الأوروبي، والآخر يريد إعادة تشكيل أوروبا، مع الأخذ في الحسبان انتقاء التوقيت، مرة في أزمة «السترات الصفراء»، ومرة عند عبور سفن اللاجئين، ثم الآن مع اقتراب انتخابات البرلمان الأوروبي، وقبل كل ذلك معضلة ليبيا.
نظرياً العلاقات بين باريس وروما متوترة منذ وصول «حركة الخمس نجوم» و«حزب رابطة الشمال» إلى السلطة عبر ائتلاف يميني في مشهد هزيمة القوى التقليدية الإيطالية وتغيير نظامي الحكم في إيطاليا وفرنسا. فبالنسبة للأولى رحل الاشتراكي رينيزي حليف فرنسا السابق، ليأتي نظام شعبوي خالص ضد الأحزاب التقليدية من اليسار واليمين، وبالنسبة لفرنسا أتى رئيس مؤيد لتحرير التجارة وقوى الأعمال طارحا إصلاح منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي عموما، ومن هنا بدأت تختلف رؤى البلدين وتوجهات الطرفين وتشابكت وتعارضت المصالح داخل أوروبا وخارجها، وأصبح الهجوم العدائي بدلا من المفاوضات، لا سيما مع ثبات موقف كل منهما في ثلاث قضايا رئيسية: الهجرة، إصلاح الاتحاد الأوروبي، النفوذ في ليبيا.
مؤخرا بعد سلسلة التصريحات المؤيدة للسترات الصفراء، والرد الفرنسي على تدخل الجانب الإيطالي في شؤون فرنسا الداخلية، لم يتوقف زعيما الائتلاف الشعبوي - دي مايو وسالفيني - عن مهاجمة الرئيس الفرنسي تحديدا وليس فقط سياساته الأوروبية بل شخصه، فضلا على الأوضاع في فرنسا. فمن جانبه دعا دي مايو إلى اتخاذ الاتحاد الأوروبي موقفاً تجاه فرنسا على خلفية استغلالها إفريقيا، ومستعمراتها القديمة، وفي ثنايا خطاب مايو العدائي يبرر توقيت التصريحات، كون فرنسا تساهم بسياستها في إفريقيا بجلب المزيد من المهاجرين غير الشرعيين إلى سواحل إيطاليا، في ظل استمرار تحميل ملف الهجرة لكل أزمات إيطاليا الاقتصادية، وفي نفس الوقت أن مكانة فرنسا الاقتصادية بنيت على ذلك الاستغلال. وكإجراء دبلوماسي متبع دفعت هذه التصريحات فرنسا لاستدعاء سفير إيطاليا في باريس، وحدثته في الأمر، ورغم أن رئيس وزراء إيطاليا جوزيب كونتي يبدو مؤيدا للاتحاد الأوروبي وحرصه على العلاقات مع فرنسا، إلا أن ثمة تباينات في تصريحاته، فمبدئيا دعوة كونتي لتخلي فرنسا عن مقعدها في مجلس الأمن، لا يمكن فهمها دون النظر لتنافس الدولتين وصراع المصالح بينهما، فبينما تدعو فرنسا وتعمل على زيادة مقاعد أوروبا في مجلس الأمن، تدعو إيطاليا فرنسا لتخليها عن مقعدها للاتحاد برمته، وهو موقف يضعف من وضع فرنسا الدولي ولا يقوي من مكانة الاتحاد الأوروبي.
ومن هنا يمكن اعتبار دعوة كونتي من باب الوجه اللين لسياسات الشعبوية الإيطالية، وليس دعم العلاقات الفرنسية- الإيطالية. من جانبها ساهمت الوزيرة الفرنسية «ناتالي لويسو» وزيرة الشؤون الأوروبية، في الرد العدائي على إيطاليا قائلة «فرنسا لا تنوي المشاركة في المنافسة على من هو الأكثر حماقة»، واصفة تصريحات القادة الإيطاليين بأنها «غير مهمة» و«غير ودية». ويبدو من السياق العام أن ناتالي هي الوزيرة المكلفة بالرد العدائي، ومن قبلها الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي لطالما هاجم اليمين الشعبوي في أوروبا عموما، وملمحا في أحيان كثيرة إلى اليمين الإيطالي.
واستكمالا للمشهد من الزاوية الإفريقية، انتقد ماكرون سابقا رفض إيطاليا استقبال سفينة المهاجرين «أكواريوس»، التي حملت مئات المهاجرين من إفريقيا، طالبين اللجوء للاتحاد الأوروبي، حينها أغلقت الحكومة الإيطالية موانئها أمام المهاجرين الذين أنقذتهم منظمات غير حكومية في البحر المتوسط ​​، ما أدى لبقاء السفينة لمدة أسبوع في البحر المتوسط حتى قررت إسبانيا استقبالها، وتم نقل المهاجرين إلى سفينتين إيطاليتين تابعتين للبحرية وحرس السواحل الإيطالي واتجهتا إلى ميناء «بلنسية» الإسباني، علماً بأن السفينة تابعة لمنظمة خيرية فرنسية وألمانية معنية بشؤون المهاجرين واللاجئين، ويفسر موقف إيطاليا عدة أسباب، أولها أن إيطاليا ترى أن المهاجرين القادمين من إفريقيا هم ضحايا استغلال فرنسا، ومن ثم ليس على إيطاليا استقبالهم، ثانيها تبعية السفينة لألمانيا وفرنسا وهما المحور الذي تريد إيطاليا إنهاءه واستبدال محور إيطاليا- بولندا به، وبالتالي فإن الحكومة الإيطالية تعمل ضد سياسات هذا المحور وترفض رؤيته.
وفي ذات السياق، تحمّل إيطاليا فرنسا معضلة الأزمة في ليبيا وتراها لا تريد الاستقرار في ليبيا، حفاظا على مصالحها النفطية، كما أن إيطاليا لا تنسى نفوذها إبان عهد نظام القذافي، الذي سقط بدعوة فرنسية وقوات دولية تزعمها الرئيس ساركوزي، رئيس فرنسا في 2011، ومنذ ذلك الحين لم يعد نفوذ إيطاليا كما هو، بل شاركتها فرنسا المكانة، وزادت قدرتها على تحقيق خطوات سريعة تسبق بكثير إيطاليا، فضلا على مزاحمة شركة «توتال» الفرنسية لشركة «إيني» الإيطالية في ليبيا، منهية عقود الامتياز والاحتكار التي حصلت عليها إيطاليا في عهد القذافي. ومن هنا يمكن تفسير تصريحات الجانب الإيطالي حول المهاجرين الأفارقة والاستغلال لثروات إفريقيا، ليس دفاعا عن الإنسانية وحقوق الدول الضعيفة، بل هو من التضرر من مكانة فرنسا وقوتها على الساحتين الأوروبية والإفريقية.
وفي سياق متصل، نشرت صحيفة «لا تريبون» الفرنسية، تقريرا عن منافسة حادة بين شركات إيطالية وفرنسية، على صادرات الأسلحة البحرية، ووفقا للتقرير ثمة تحالف بين شركتي بناء السفن الفرنسية «نافال جروب»، والإيطالية «فينكانتيري»، يقوم على بيع الأسلحة البحرية، وأن الشركة الإيطالية قامت بلعبة مزدوجة في نطاق بيع الأسلحة لدول البرازيل، وبيرو، ورومانيا، ومصر، مع العلم أن الشركتين اتفقتا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي على تأسيس تحالف صناعي وتجاري في قطاع البحرية العسكرية، يهدف للحد من تهديد القوى الصناعية مثل الصين والولايات المتحدة، غير أن الصراع اشتد في مناطق سوقت فيها الشركة الفرنسية أسلحتها البحرية، وحاولت الشركة الإيطالية إفساد صفقات على الشركة الفرنسية في المنطقة العربية تحديدا، والمغزى هنا أيضا هو أن تفوق فرنسا في هذا المجال ساهم في اشتعال الحرب الكلامية بينهما.
ومع اقتراب الانتخابات الأوروبية للبرلمان الأوروبي في مايو/أيار القادم، يحاول الجانب الإيطالي كسب المزيد من الجماهيرية في محاولة منه لتحقيق مكاسب سياسية على العكس من الفشل في ملف ليبيا وتجارة الأسلحة، ولا سيما في ظل تمسك المحور الألماني- الفرنسي بتوحيد الجهود لإصلاح أوروبا ومواجهة الشعبوية التي ينتمي إليها اليمين الإيطالي، ولا يبدو أن تعارض المصالح بين فرنسا وإيطاليا في الشرق الأوسط أو في أوروبا وغيرهما سوف يجعل التوتر ينتهي قريباً.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"