الأدب.. نقش على حجر

04:08 صباحا
قراءة 6 دقائق
 القاهرة: مدحت صفوت

مقدمة بمجرد أن تذكر أمام طلاب عرب في مراحل التعليم الأساسي مفهوم «الأدب»، تُغم الوجوه أو يتحول الأمر إلى مسار السخرية، والتندر من الأدب وطرائق كتابته، ليصبح السؤال مشروعاً: ما السبب وراء رفض أغلبية الطلاب العرب للنصوص الأدبية؟

حملت «الخليج» همّ السؤال، وتوجهت به إلى متخصصين تربويين ونقاد وأدباء عرب، متفقين على أن النصوص الأدبية في مناهج التعليم العربية تتسم بالقصور الشديد والضعف الواضح، منطلقين من قناعة مفادها أن القراءة في الصغر كالنقش على الحجر.

أكاديمياً، ترى الدراسات والبحوث الجامعية أن الغموض لا يزال يسود تحديد مفهوم الأدب ومختلف نظرياته الاصطلاحية في منظومتنا التعليمية، وما زال تعليمه في مدارسنا وجامعاتنا يعرف تعثراً على مستوى التوصيل، والتبليغ، ولم يتخلص بعد من شوائب النظرية التي تنظر إليه بعين تقسم الأدب إلى عصور تاريخية تسودها خصائص فنية معينة، ولم يبرح اجترار الأجناس والفنون الأدبية المعهودة نفسها، ويغض الطرف عن الكثير من النصوص العامية والمستحدثة، وبقي حبيساً لمناهج تحليلية قاصرة عن كشف خباياه وجمالياته الفنية.. وفي مصر تحديداً، يرى المتخصصون في شؤون التعليم أن السياسة التعليمية التي طبقت بالفعل منذ السبعينات كان لها تأثيرها البالغ في إضعاف الإنتاج الفكري والثقافي والعلمي والفني.

من جهته، شدد رئيس الجمعية المصرية للنقد الأدبي الدكتور صلاح فضل، على ضرورة تدريس الشعر والأدب والفنون لطلاب المدارس؛ لما له من دور في تأسيس الوعي بطبيعة الشخصية الوطنية ومقومات الهوية القومية عن طريق النماذج الجمالية، وتنمية الكفاءة اللغوية في التعبير، وتنشيط الخيال وتدريبه على تجاوز الواقع، كذلك تحبيب القراءة وتوظيف جماليات الكتابة لتعزيز الإقبال على المعرفة والشغف بها.

وأكد فضل، أن مناهج التعليم العربي لا تزال تعتمد نظرية العصور الأدبية طريقة للتدريس، التي تعني تقسيم التراث الأدبي إلى عصور زمنية، تمشياً مع السلم التعليمي، وهنا يجري الربط بين الأدب والعوامل السياسية، ويرسخ في الأذهان انتهاء الفكر والنشاط الأدبي بزوال النظم السياسية، وهو ما أفقد النص الأدبي أهم أهداف تدريسه، وهو «تربية الذائقة».

محاذير

بشأن ما تفتقِرُ إليه النصوص الأدبية في مناهج التعليم، كشف الشاعر أشرف البولاقي، أنها تفتقر إلى الحِس الجمالي الذي يمكن له أن يحبّب إلى الطلاب الفن، سواءٌ أكان شعراً أم سرداً، أم نموذجاً مسرحياً، فكل النماذج المختارة لم يخترها مبدعون ولا مثقفون، لكن اختارها موظفون. كذلك تغيب المعاصَرة، لأن أغلب هذه النصوص قديمة وماضوية، حتى في حالة اختيار نصوص حديثة لمرحلة دراسية بعينها، يجرى اختيار نصوص لكتّاب أو مبدعين تجاوزت أعمارهم الستين والسبعين عامًا! الأمر الذي يُفقِد هذه النصوص قيمتها عند الطلاب المتلقين الذين يجدون ذائقتهم بعيدةً تماماً عن تلك النصوص.

على صعيد متصل، بيّن الروائي اليمني محمد الغربي عمران أن «العتاب ينشأ دوماً بين أدباء لهم حضور من خلال نتاجهم الأدبي والمسؤولين عن وضع المناهج التعليمية، وكثيراً ما يحتفي الأديب معلناً إدراج نص من نصوصه ضمن منهج ما، لكنّ عملية اختيار نص ما تخضع للعلاقات الشخصية بالنسبة للأدباء الأحياء. فيما تبدو معظم نصوص المناهج التعليمية لمؤلفين أموات، بل إن معظمها لأدباء رحلوا منذ قرون».

وأضاف مؤلف «ظلمة يائيل»، أنه عادة ما يجري اختيار أبسط النصوص البعيدة عن المحاذير الدينية والسياسية، مع التركيز على الجانب اللغوي، لكن في المجمل يكون الأمر جيداً من باب المبدأ، دون أن تخدم النصوص وعي الطالب بصورة جيدة، وإن مثلت إسقاطاً واجباً.

هنا يتفق رئيس الجمعية المصرية للنقد الأدبي مع الروائي اليمني، في وجود المحاذير بأشكالها المتباينة من بينها الاجتماعية والأخلاقية، مشيراً إلى أن «التيار التقليدي السائد في صفوف المربين يرى أن الشباب في مراحل العمر الأولى لا ينبغي السماح لهم بتداول شعر الغزل، مع أنه الوحيد الذي يرهف مشاعرهم ويشعل شغفهم ويشبع عواطفهم، ويسمو بعلاقاتهم إلى آفاق الطهر والفن والجمال. وأرى أن الطلاب والطالبات الذين يتأملون ويحفظون هذه الأبيات سوف يعشقون اللغة العربية، وتحلو لهم الحياة بها، ويجدون فيها آفاقاً رحبة من الحب العذري الذي يمتص طاقتهم، ويضيء وجودهم بنور الفن وسحر الشعر وفتنة الجمال».

ذكريات

حين سألنا الروائية العراقية إنعام كجه جي، عن النصوص الأدبية في مناهج التعليم، أوضحت أنه تجدر الإشارة إلى إقامتها في فرنسا منذ عقود، بالتالي فإن علاقتها بالمناهج التعليمية العربية بعيدة، قبل أن تتذكر أنها مدينة بالكثير من ثقافتها الأدبية وذائقتها الشعرية للنصوص، التي حفظتها في طفولتها وصباها من خلال مناهج المراحل الدراسية المختلفة.

وأوضحت مؤلفة رواية «الحفيدة الأمريكية»، أنها تعرفت في المنهج الدراسي إلى نصوص طه حسين، وبالذات إلى فصل من سيرته الفذة «الأيام»، ولا تزال حتى اليوم تحفظ عن ظهر قلب فقرات منها، كما تعرفت إلى أحمد شوقي ونجيب محفوظ وأدباء المهجر أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وإيليا أبي ماضي، وإلى شعراء العراق أمثال، نازك الملائكة وبدر شاكر السياب.

وقالت «كجه جي»: «في الحقيقة لا أدري إن كانت تلك النصوص ما زالت مدرجة في المناهج أم رفعت منها أو جرى تبديلها.. لكنني لا يمكن أن أنسى تأثيرها فيّ وفي تقريبي من الأدب العربي، بحيث شجعتني على المطالعة والبحث عن دواوين الشعر والروايات في مكتبة المدرسة والمكتبات العامة، خارج المناهج المقررة».

النصوص ذاتها تقريباً هي التي ذكرتها الروائية المصرية أماني فهمي، وقالت: «في طفولتي كنت سعيدة بقصة مثل «عقلة الإصبع»، وحين كبرت استمتعت على سبيل المثال برواية «الأيام»، لعميد الأدب العربي طه حسين، كجزء من المنهج، وفي المرحلة الجامعية، عرفت أن طلاب مدارس اللغات درسوا مسرحيات وليم شكسبير مما مثلّ فتنة لهم».

واستدركت «فهمي»، أن ثمة إهمالًا كبيراً فيما يخص النصوص الأدبية في مناهج التعليم، الأمر الذي لا يقرب الطلاب من الأدب على نحو عام، ولا يحببهم فيه، هنا يلتقط «البولاقي»، طرف خيط الحديث، ويضيف أنه لا يمكن الزعم أن النصوص المقررة على الطلاب وبهذه الطريقة، يمكن أن تقرّب الطلاب أو تحبب إليهم الفن، بالعكس تماماً، فنحن نلاحظ قطاعاً عريضاً من الأجيال الشبابية المعاصرة، تسخر من تلك النصوص التي تتحول في ذاكرتهم إلى «إفيهات» ونكات.

تغيير جذري

يؤكد الشاعر أشرف البولاقي ضرورة تغيير اللجان المسؤولة عن وضع المقررات والمناهج، بحيث ينبغي أن تضم هذه اللجان مبدعين ومثقفين، على أن يكون من بينهم مبدعون شباب، وعلى مؤسسات التعليم كلها في العالم العربي، أن تكرس لمفهوم اختلاف الأشكال الأدبية؛ إذ لا يعقل ونحن في هذه اللحظة التاريخية أن نقف كمثال على قصيدة الخليل وحدها، باعتبارها النموذج الشعري الوحيد.. كذا الموقف من قصيدة العامية، مستدركاً «لا أحد يطالب بأن تكون كل النصوص عامية، لكننا نطالب بنموذج أو نموذجين؛ ليعرف الطلاب أن هناك شعراً له سياقاته الجمالية، وظروفه المعرفية».

اقتراحات

ليس من الطبيعي التوقف أمام عرض الإشكالية، التي تصب مؤخراً في محصلة ضياع الذائقة العربية، وسألنا محاورينا عن الحلول المقترحة التي من شأنها أن تُعدل الواقع.. بلهجة صارمة أوضح صلاح فضل أن الأمر يتطلب «ثورة» في المؤسسات التعليمية، وإعادة نظر جذرية في المناهج.

وحسب فضل، فالدعوة الرشيدة التي سعى إليها بعض المهمومين بمشاكل التعليم في مصر من إنشاء «مفوضية التعليم»، التي تتولى وضع السياسات والاستراتيجيات وتشرف على تنفيذها، كفيلة بأن تتدارك هذا الضعف والقصور، وأن تجعل التعليم- وهو بيت الداء في الشأن المصري- مختبراً حقيقياً لإبداع الدواء وصناعة المستقبل.

أمّا الغربي عمران، فكرر كلمة ثورة، كسابقه فضل، قائلًا: «نحن بحاجة إلى ثورة تتجاوز أسلوب التلقين إلى طرائق مبتكرة؛ حتى تجاري عمليتنا التعليمية أحدث الأساليب، في عصر الرقمنة الذي يعني أن تلك الوسائل تتطور في كل لحظة، من خلال الأجهزة والبرمجة، وكل ما يجمع تلك الوسائط، بينما لا تزال طرائقنا قديمة، وما نراه جديداً هو صدى باهت لما وصل إليه غيرنا، فنحن جزء من مجتمع إنساني، وليس معيباً ألا نفتح عقولنا لما وصل إليه من تطور في جميع مناحي الحياة، وعلى وجه الدقة المجال التعليمي.. وإن تباينت مستويات التطور من قطر عربي إلى آخر، إلا أن ما لدينا على وجه العموم بحاجة إلى ثورة لتغيير العملية التعليمية برمتها، على أساس ديمومة التغيير التفاعلي الدائم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"