عادي

لُعبة بين يدين

23:14 مساء
قراءة 5 دقائق
3

القاهرة: وهيب الخطيب

«أكتب كي يتفاعل معي القارئ»، في الوقت الذي تبدو فيه العبارة السابقة كلاسيكية، يرددها كثير من الأدباء والكُتّاب للتعبير عن اهتمامهم بالمتلقي، فإنها تظل مجازية ونسبية حسب رؤية كل منا للتفاعل، بينما أصبح الآن بإمكان المؤلفين أن يلعبوا مع القارئ وبتفاعل على نحو أكثر وضوحاً وممارسة.

«للمرة الأولى، أنتَ أكثر من مجرد قارئ سلبي. يمكنك التحدث إلى القصة بجمل كاملة. والتواصل بنثر وصفي واضح. علاوة على ذلك، يمكنك في الواقع تشكيل مسار الأحداث، من خلال اختيارك للعمل. ولديك مئات البدائل في كل خطوة»، هكذا يفتتح موقع «الأدب في العالم الرقمي» مقدمته المطولة عن الرواية التفاعلية.

إذن، في عالم الأدب الرقمي والإلكتروني يعود الفن، والأدب على وجه الخصوص، إلى مهمته القديمة، ألا وهي اللعب، لتصبح الرواية التفاعلية حرفياً لعبة، تشبه ألعاب الجيم الحديثة، يجري فيها تقييم الاختيارات السردية ومسارات الأحداث للقارئ، فيختار بنفسه الطرق التي سيسلكها في تتبع أحداث الرواية.

ومع تفاعل المؤلف والقارئ، نصبح أمام تجسيد عملي لفكرة التأليف المشترك التي نادت بها استراتيجيات ما بعد الحداثة، أو لنقل غياب المؤلف الفرد، ويصبح العمل في مجمله إنتاج أطراف متعددة؛ المؤلف، أو المصمم، والقارئ. ويضع المؤلف إطاراً عاماً لكن المتلقي ينتقل عبر الإطار كما يشاء، ما يخلق تجربة فريدة لكل قارئ. وتُجسد الرواية التفاعلية النموذج السابق من التفاعل، إذ يبني المؤلف إطاراً، أو عالماً سردياً، ثم يتيح المجال للقارئ ليصبح مؤلفًا يمنح الشخوص اختياراتها ضمن مسار الأحداث.

الأمر بالطبع ليس بهذه البساطة، ففكرة مشاركة القراء أعمق بكثير من مجرد اختلافات بسيطة في ترتيب التفاعل، ولا يقتصر الأمر على أن القارئ 1 يتبع المسار أ حتى النهاية، والقارئ 2 يتبع المسار ب حتى النهاية. ما يجعل التأليف المشترك قوياً هو أن المسارين «أ- ب» تجربتان مختلفتان تمامًا، إذ يجري تقديم العديد من الاختيارات للقراء، ولكل خيار عواقب سردية ومسارات تمنح كلّ قارئ تجربة مغايرة.

أنواع رقمية

رئيس منظمة الأدب الإلكتروني 2013-2019، ديني جريجار Dene Grigar، يصف الأدب الإلكتروني بأنه نوع من الفنون التي قد تنطوي على أساليب وإمكانات بصرية وصوتية وحركية وتفاعلية بدرجات متفاوتة، ومع ذلك، فإن القاسم المشترك لجميع أعمال الأدب الإلكتروني هو أنها «حسابية».

فيما تعتمد المنظمة ELO عبر موقعها تعريفًا آخر، بوصف الكتابة الرقمية أعمالًا ذات جوانب أدبية مهمة تستفيد من الإمكانات والنصوص التي يوفرها الكمبيوتر المستقل أو المتصل بالشبكة، ضمن الفئة الواسعة من الأدب الإلكتروني التي تحوي أشكالاً عدة، بعضها: الشعر والقصص التعشبية، والشعر الحركي، والتركيبات الفنية الحاسوبية التي تتطلب من المشاهدين قراءتها، أو تتضمن جوانب أدبية، والرواية التفاعلية، ونصوص الكتابة التشاركية التي تسمح للقراء بالمساهمة في التأليف، والقصائد والقصص المؤلفة بواسطة أجهزة الكمبيوتر، إما على نحو تفاعلي، وإما بناء على معايير محددة مسبقًا، كذلك «شخصيات المحادثة» والمعروفة أيضاً باسم chatterbots.

وفي كل الأحوال، وأياً كان الشكل من الأشكال التي سبق ذكرها، فإن الأدب التفاعلي يشبه لعبة الكمبيوتر، لأن اللاعب/ القارئ يأخذ دور الشخصية الرئيسية، ويستخدم أوامر نصية للتحكم، أي أن القارئ هو من يحدد لبطل الرواية مثلًا ما يتوجب فعله لحل الألغاز في اللعبة/ الحبكة. وفي كل مرة يحل فيها اللاعب/ القارئ اللغز، يكون قادراً على اكتشاف المزيد من المعلومات، لتمنح الحبكة معناها في نهاية الأحداث.

نلاحظ هنا أن المفاهيم الأدبية قد يطرأ عليها تغيير ما، فالمؤلف من الممكن أن يصير المصمم، أو المطور، والقارئ قد يسمى باللاعب، كما تصبح العلاقة بينهما مفتوحة، فهما طرفان في لعبة سردية واحدة، أو لنقل بشيء من الدقة شريكان في صناعة العمل الذي يتلقاه القارئ لحظة المساهمة في تنفيذه.

ومع هذه المساحة الوافرة من اللعب، فإن المحددات التي يضعها مسبقاً المؤلف/ المطور تظل سياجاً يدور في فلكه القارئ/ اللاعب، كما تدور في إطارها الشخوص السردية التي حددها المؤلف أولًا، ومن ثمّ ومع أي تصور مفتوح ولا نهائي لنتائج التفاعل الرقمي بين النص/ اللعبة والقارئ/ اللاعب، فإن الأمر يبدأ وينتهي حسبما حدد المؤلف وفق رغبته وتصوره الأولي.

الشعر الديجتال

في الواقع، اكتسب مجال الأدب الرقمي زخماً وشعبية من مجال المعرفة المتخصصة خاصة في الأكاديميات الغربية إلى نظام معترف به على نحو متزايد يمكن استخدامه لرسم إمكانات وقيود الوسيط الرقمي، وليس ببعيد عن الروايات التفاعلية يقف صنفاً جديداً من الشعرية، تسمى الشعر الديجيتال.

وتتعدد المجموعات البحثية ومشاريع الأدب الإلكتروني في البلدان الغربية، نشير إلى بعضها مثل جماعة «الأدب الرقمي DDDL» في فرنسا، وجماعة «هرمينيا» في إسبانيا، و«الأدب الإلكتروني كنموذج للإبداع والابتكار» ELMCIP في النرويج، و«الشعر في العصر الرقمي» في ألمانيا، و«PO.EX» في البرتغال، وكلها جماعات معنية بالبحث في مجال الأدب الإلكتروني. كما تُدير منظمة الأدب الإلكتروني الدولية ELO التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، مؤتمرات سنوية وتنشر مجموعات رقمية من الأدب الإلكتروني من أجل تعزيز القراءة والكتابة والتدريس وفهم الأدب وتطوره.

ومع التطور الهائل في استعمال التقنيات المعاصرة والأدوات الرقمية، من أجل إنشاء محتوى أدبي عبر الإنترنت، فإن الاعتراف بما يسمى بالشعر الديجيتال تتزايد رقعته الواقعية، يوماً بعد آخر، ويصبح تعاطيه وتناوله النقدي جزءاً من الوعي السائد، ونتيجة لذلك، فإن السؤال حول إمكانية اعتبار القصيدة الرقمية حقاً قصيدة، أو أدباً، لم يعد يُنظر إليه على محمل الجد.

ومع ذلك، لا يعني هذا تجاهل النماذج السابقة للنقد، فتطبيق الرؤى النظرية التقليدية لا يزال مفيداً من أجل تحديد المتغيرات الرقمية للتعبير الأدبي. وفي الواقع، بدلاً من استبدال المعارف والأشكال الثقافية الحالية والسابقة، يمكن للأدوات والتقنيات الرقمية الاعتماد على النماذج الأدبية السابقة وتسليط الضوء عليها، ما يؤدي غالباً إلى تجديد الاهتمام وفهم الظواهر الثقافية التاريخية.

كتاب مهم

في رحلة البحث عن وضعية الاعتناء بالشعر الرقمي، صادفتنا دراسة مطولة وعميقة، للأستاذة والمحاضرة في كلية ممارسة الوسائط الرقمية قسم الدراسات الإعلامية بجامعة ماينوث الإيرلندية جنين ناجي، وقد عنونتها ب«الشعر الرقمي».

ويكتسب كتاب جنين أهميته من الموضوعات التي يتطرق لها، وبلغة تعرف كيف تتواصل مع القارئ العام من دون التخلي عن المنهجية الأكاديمية، وتتطرق المؤلفة في سبعة فصول إلى: ماهية الشعر الرقمي، والخوارزمية الأدبية، والتأويلات وتطبيقات الشعر، وعوالم المرايا الشعرية، شعر الواقع، وشعرية المستقبل، وأخيراً التعبير الأدبي في عصر الآلات.

وتهتم ناجي بالدراسات الإعلامية والوسائط النقدية والإبداعية والوسائط المتعددة وتطوير الويب، وتعنى بحوثها بمجال الثقافة الرقمية، واستكشاف تأثير الأجهزة الحديثة في التعبير الشعري على وجه التحديد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"