عادي

التقنية رافعة الإبداع

23:17 مساء
قراءة 6 دقائق
3

الشارقة: علاء الدين محمود
أحدثت الثورة الرقمية واقعاً جديداً على البشر، وصارت تؤثر في مجمل تفاصيل حياتهم اليومية، حيث كانت بمثابة انقلاب حقيقي ومنعطف تغيرت معه صور الحياة وطرائقها، وصارت مواقع التواصل الاجتماعي قبلة للجميع، فهناك حرص شديد من كل شخص في مختلف أنحاء العالم على الوجود في واحد أو عدد من تلك المنصات والمواقع، وكذلك غرف الدردشة والرسائل السريعة وتطبيقات الهواتف الجوالة، حيث لا سبيل للتواصل الاجتماعي مع العالم إلا عبرها، وما يميز تلك الموقع هو أنها تطور في كل مرة من أدواتها ومزاياها وبرامجها.

بطبيعة الحال، فإن تلك الثورة في مجال المعلوماتية وما أفرزته من واقع، كان لها تأثير كبير في الأدب، فقد كانت الكتابة الإبداعية من أكثر الأجناس التي تأثرت بهذا التطور واستفادت منه، وذلك ليس أمراً غريباً ولا جديداً، فقد ظلت الكشوف العلمية والتطورات التقنية تنعكس دوماً على عالم الأدب بصورة مباشرة، فهناك كتابات ارتبطت بالمنعطفات التي شهدت اختراعات واكتشافات كبيرة. وعلى سبيل المثال، يرى البعض أن أعمال الروائي توماس هاردي، وهو واحد من أهم الكتاب الواقعيين في العصر الفيكتوري، قد تأثرت وارتبطت بالثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وما شهدته من تطور تقني كبير، ومثلت أعماله نقلة ومنعطفاً جديداً في الأدب مهد لمرحلة جديدة، وكذلك الروائية ماري شيلي التي اخترعت شخصية «فرانكنشتاين»، وكانت تلك الرواية شديدة الصلة بالتطورات التقنية والعلمية التي حدثت في ذلك الزمن.

خطأ شائع

وقد سُقنا تلك الأمثلة للتدليل على الأثر الكبير الذي تُحدثه التطورات العلمية في الأدب، وكذلك لدحض فكرة رسخت في أذهان الناس، وهي عدم وجود علاقة بين الأدب والتقنيات وتطورها، وذلك خطأ شائع يريد أن يجعل الأدب والإبداع حالة هلامية لا علاقة لها بالواقع وما يجري فيه، والحقيقة أن كل المنعطفات التي شهدت اكتشافات علمية وتقنية شهدت كذلك تطوراً في الأدب من ناحيتي الموضوع وتقنية الكتابة، وبالتالي فإن تأثير الثورة الرقمية الحديثة على الكتابة الإبداعية ليس شيئاً غريباً، ولكنه كان تأثيراً أكبر، فقد قاد إلى ظهور ما يسمى الأدب التفاعلي وفي تعريفه الأكثر شيوعاً وقبولاً: هو الأدب الذي يستعمل وسيطاً إلكترونياً بين عمليتي الإنتاج والتلقي، فمنذ نحو عشرين عاماً ظهر في الساحة الأدبية إنتاج أدبي يقرأ على شاشة الكمبيوتر، ومن خصائصه أنه يدمج الوسائط الإلكترونية المتعددة، نصية وصوتية وحركية في فضاء يسمح للقارئ بالتحكم فيه، وهناك مسميات عديدة لهذا الأدب. ففي أمريكا يتم استعمال مصطلح «النص المترابط»، أما في غالب أوروبا فيطلق عليه النص الرقمي والتفاعلي، بينما نجد في فرنسا شيوع مصطلح الأدب المعلوماتي باعتباره الجامع لمختلف الممارسات التي تحققت من خلال علاقة الأدب بالحاسوب والمعلوماتيات.

انتقال

اهتم كثير من الدارسين بالأدب التفاعلي الإبداعي، وأشاروا إلى أن النص التقليدي المكتوب هو نفسه نتاج تطور علمي واجتماعي كبير، حيث كان الأدب قبيل الكتابة شفاهياً وبعد اختراع الورق ظهر الأدب المكتوب، وبالتالي فإن النص الإلكتروني هو انتقال جديد متوافق مع الثورة التقنية ويستفيد مما تقدمه من أدوات وتقنيات.

وأصبحت هناك العديد من الصفحات والمنصات والمواقع الإلكترونية التي تهتم بصورة كبيرة بالكتابة الإبداعية من شعر وسرد، فهناك مجموعات تهتم بالقصيدة وأخرى بالرواية بكل تفرعاتها، وكذلك القصة بأشكالها المختلفة مثل القصيرة والومضة، والتداعيات، أو ما يعرف بالبوح والخواطر، وهناك الكتابة النثرية، والشذرات، وكذلك هناك صفحات مختصة بالورش وتعلم الكتابة الإبداعية، وكل ذلك يشير إلى العلاقة الوثيقة بين مواقع التواصل الاجتماعي والكتابة الإبداعية بأنماطها المختلفة، يشارك فيها كتاب بمختلف درجاتهم من المحترفين والهواة والنقاد، ولاشك في أن حجم النقاشات والتفاعلات التي تجرى في تلك المجموعات والصفحات ينعكس بصورة مباشرة على الكتابة، وذلك ما ظهر جلياً على نمط ومواضيع وأساليب جديدة في الكتابة وقوالبها تعبر عن هذه المرحلة، وذلك ما حدث بالفعل. فمعظم الأشكال الكتابية الجديدة مثل القصة الومضة؛ أي القصيرة جداً، وأيضاً الخواطر وما شابه ذلك، هي من تأثير تلك المواقع ونمط الحياة العصرية. فقد فرضت على الرواد والكتاب طرقاً معينة في الكتابة، وكذا الحال بالنسبة للأسلوب. فالكثير من الكتابات على تلك المواقع صارت تستصحب اللغة المستخدمة فيها مثل «الإيموجي» والعلامات والرموز، وتوظفها داخل النص الإبداعي في مواقع التواصل، وبالتالي ربما يشير ذلك إلى ما ستكون عليه الكتابة الإبداعية في المستقبل.

بنية

وفي هذا الصدد ترى الكاتبة والمدوّنة والناشطة على الإنترنت، الأمريكية ريبيكا كاي واتسون، أن تجربة الكتابة عبر التواصل الاجتماعي تمنح الكُتّاب فرصة للتخلي عن الأساليب القديمة في السرد، مشيرة إلى أن هناك روايات كاملة ألفت بتجربة من الحياة في العالم الافتراضي، وأن هناك أدباء نجحوا في إدخال الدردشة الرقمية في قصصهم ورواياتهم بطريقة مشابهة لكتابة الحوارات المباشرة، وضربت واتسون أمثلة بأعمال سردية تتحدث عن العلاقة بين الأصدقاء والأفراد في تلك المواقع في سياق تعزيزها لفكرة أنها وفرت طرقاً وتقنيات جديدة في الكتابة على مستوى الوصف والحوار والتعبير عن المشاعر، خاصة العزلة، وتداعي الذكريات، وهذا الأمر قاد إلى مسألة في غاية الأهمية وهي تحرير بنية الكتابة وفتحها على احتمالات جديدة.

تلقي

للكتابة التفاعلية، كذلك، تأثير كبير في المتلقي، فهو لم يعد مجرد قارئ يقع تحت هيمنة المؤلف، حيث صار يتفاعل بصورة مباشرة مع النص الذي أمامه، ويُبدي آراءه من خلال الأدوات المتاحة من كتابة مباشرة أو استخدم «الإيموجي» المحدد الذي يرمز إلى موقف المتلقي المعين من النص سواء كان إيجاباً أو سلباً.. اختلافاً أو اتفاقاً، وهذا يعني تغييراً كبيراً في العلاقة بين القارئ والنص أو المتلقي والكاتب، والمؤلف نفسه يستطيع أن يعدل بصورة مباشرة دون تأجيل نصه، وفقاً للآراء التي لمسها من جموع المتلقين، وبالتالي فإن النص التفاعلي يتصف بالمرونة، كما يتميز بكونه غير مكتمل لأنه قابل للتغيير في كل حين، وهذا التغيير يسهم فيه المتلقي بصورة كبيرة، وبالتالي فإن القارئ صار شريكاً في العملية الإبداعية.

أنماط

ويحتفظ الانتقال من النص الورقي المكتوب بصورته التقليدية إلى الإلكتروني، بالأنماط الإبداعية ذاتها، لكن يختلف في التقنيات، فهناك القصيدة الشعرية والقصة القصرة والومضة والخاطرة، وهناك الرواية، وكلها أشكال تعارف عليها المتلقي، لكن صار يلحق بتلك الأجناس صفة «التفاعلية»، فصارت هناك قصة وقصيدة ورواية تفاعلية، وهذا هو الفرق الكبير، حيث يستفيد الكاتب من الأدوات التي توفرها التقنيات الحديثة، فهناك روايات تجمع بين الكتابة العادية و«الإيموجي»، وكذلك يوظف الكاتب الصوت والصورة في النص التفاعلي والموسيقى التصويرية التي تعبر عن حدث معين في النص، وأصبح هناك الكثير من الكتاب الذين تخصصوا في تلك الأنماط، فمنهم من يكتب القصيدة التفاعلية أو الرواية والقصة والخاطرة المعتمدة على التفاعل بشكل حاسم.

وإذا كان هدف الكتابة في النص التقليدي هو إنتاج الصور عبر سيولة اللغة، فإن ما يميز هذا الأدب التفاعلي من شعر وسرد، هو أنه لم يعد يقرأ فقط ولكنه يبصر ويشاهد كذلك، وقد حدثت فيه الكثير من التطورات، وصارت الكثير من المواقع تتنافس في مسألة التفاعلية تلك. فبعضها عمل على تحويل الكلمات إلى صور، وتضييق هامش الكلمات المكتوبة؛ بل صار هناك اعتماد كبير على الرموز والأشكال الهندسية، فظهر مثلاً ما يعرف بالشعر الهندسي المعتمد على الأشكال المعروفة في عالم الهندسة.

ويتمتع الأدب التفاعلي بالعديد من الخصائص عند مقارنته بالورقي، حيث إن المؤلف يصبح على علاقة مباشرة مع الجمهور، بعكس ما يحدث في حالة الكتاب الورقي، ويدخل معه في حالة حوارية تفاعلية مباشرة، كما يجد المؤلف أمامه الكثير من الأدوات والإمكانيات التي توفرها المنصة أو الموقع الإلكتروني، فهو لا يعتمد على الكتابة فقط في الوصف أو في إظهار المشاعر والحالات النفسية المتباينة.

موت المؤلف

نستطيع القول إن نظريات أدبية مثل «موت المؤلف»، لرولان بارت، تجد تحققها أكثر في الأدب التفاعلي، حيث إن المتلقي يمتلك دوراً كبيراً في المشاركة والتحليل؛ بل أصبح شريكاً في إنتاج النص من خلال الملاحظات التي يبعثها بصورة مباشرة للكاتب، حيث إن تلك النظرية سعت إلى تحرير النص من سلطة المؤلف وخضوعه للقارئ؛ أي خلق علاقة إبداعية بين النص والقارئ، وذلك ما يحدث بصورة كبيرة في الأدب التفاعلي، وكذلك نظرية «موت الناقد» للبريطاني رونان ماكدونالد، فقد مات الناقد بالفعل في الأدب التفاعلي وحل مكانه المتلقي أو القارئ، الذي بات يستطيع أن يضفي قيمة على الأعمال الإبداعية التي يقرأها دون حاجة إلى ناقد متخصص.

وبحسب ماكدونالد، فإن الناقد الأكاديمي المتخصص لم يعد يطل على القراء في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المختلفة، ويرجع ضعف هذا الدور للناقد في اللحظة الراهنة إلى انتشار المدونات والمواقع التي تتيح لأي شخص الكتابة عن المؤلفات، والأفلام والمسرحيات والعروض الموسيقية، وهي العملية التي يرى ماكدونالد أنها حلت محل الأقلام المتخصصة التي كانت في ما مضى توجّه القراء وتدلّهم.

موجة

الأدب التفاعلي أو الكتابة الرقمية هو بمثابة موجة جديدة، لكنها طرحت نفسها بقوة وخلقت مفاهيم جديدة في الأدب والتواصل الإنساني والتفاعل الإبداعي، غير أن تلك الموجة لا تزال قيد الدراسة والتنظير، ولم تخضع حتى الآن لتجارب نقدية كبيرة، وبالتالي فإن الحكم عليها لايزال مبكراً، وفي الوقت ذاته، فإن الكتابة التقليدية لم تخل الطريق أمام تلك الظاهرة، ولا تزال سيدة الموقف.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"