الذين لا يقرأون التاريخ!

00:49 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

لكل عصر قضية كبرى، أو حدث جوهري يبلور صورته في التاريخ. كانت حرب السويس (1956) وسط تحديات دولية وإقليمية لا مثيل لخطورتها مدخل جمال عبدالناصر للتاريخ.

بصورة أو أخرى فإنها كانت نقطة فاصلة في تاريخ الإقليم والعالم، تغيرت معادلات قوة، سقطت إمبراطوريات قديمة عن عروشها، وأخذت حركات التحرير في العالم الثالث مداها بإلهام أن دولة من العالم الثالث استطاعت أن تكسب الرهان على استقلال قرارها الوطني.

وكانت حرب أكتوبر (1973) مدخل أنور السادات للتاريخ بقدر استجابتها لطلب تحرير الأراضي المحتلة بقوة السلاح، بذلت تضحيات هائلة في ميادين القتال، على الرغم من خذلان السلاح بالسياسة، فإنه يحسب له تحمل مسؤولية قرار الحرب.

عند مطلع عام (2004) كان تقديري أن هناك فرصة أمام مبارك لدخول التاريخ من باب التحول الديمقراطي. في ذلك الوقت أخذت شرعية حكمه تتآكل، وبدا النظام كله في حالة ترنح إثر سقوطه مغشياً عليه أثناء خطاب له في مجلس الشعب.

بقلق زائد طرح وقتها سؤال «مصر إلى أين؟» على المجال العام في بلد لا تحكمه أية قواعد دستورية راسخة في نقل السلطة.

كان ذلك وضعاً خطِراً على أمن البلد قبل أمن النظام وباباً مفتوحاً على أوضاع انفجار لا سبيل إلى ردها. بحسابات الأمن بدا الاستقرار هشاً والتغيير إجبارياً لتجنب عواقب انفلات واسع، أو فوضى دموية.

«هذا أوان التغيير الديمقراطي الواسع، وإلا فإن الكارثة واقعة لا محالة». هكذا كتبت بالحرف يوم 25 يناير (2004) على صفحات جريدة «العربي».

كان ذلك نصاً استبق بأيام قليلة ما جرى في قصر الاتحادية يوم الثلاثاء (20) يناير من حوار مقتضب، لكنه كاشف، مع مبارك بعد أن غادر منصة اجتماع ضمه مع نحو 80 مثقفاً بديلاً عن حواره السنوي المعتاد في معرض القاهرة الدولي للكتاب.

باقتراح من المفكر الراحل الدكتور محمد السيد سعيد، ذهبنا إليه في طرف القاعة؛ حيث كان يتجول فيها. بشجاعة واستقامة عرض عليه، متحمساً ومقتنعاً بما كنت قد كتبته، عن فرصته في دخول التاريخ بالتحول إلى الديمقراطية.

أشاح مبارك بيده قائلاً: «مش عاوز أدخل جغرافيا ولا تاريخ»، تحدث مسهباً عن احتمالات تدخل قوى أجنبية بالتمويل إذا ما أجريت انتخابات رئاسية بين أكثر من مرشح، على ما كانت تطالب وقتها المعارضة المصرية مؤجلاً بذريعة الأمن والاستقرار أي إصلاح سياسي ودستوري ضروري.

كان مدركاً مدى الأخطار المحدقة بالحدود وسيناريوهات تهميش الدور المصري في محيطه، لكن لم يكن لديه – بالمقابل – مشروعاً لدرء تلك المخاطر.

لم يكن نظام الحكم واثقاً بنفسه ولا بشعبه وأهدر فرصاً واتته لدخول التاريخ بانفتاح ديمقراطي واسع ينسف قواعد اللعبة السياسية التي استنزفت زمنها، وباتت عبئاً على أمن البلد ومستقبله.

أفضى تعطل الإصلاح السياسي في بنية نظام الحكم، الذي نالت الشروخ من شرعيته، كأنه بناية توشك على الانهيار، إلى ارتفاع منسوب تدخلات الإدارة الأمريكية في أدق شؤونه.

ربما لم يفاجأ مبارك – أوائل شهر مارس (2005)– باتصال هاتفي مع كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية متصوراً، لوهلة، أنها قد تشرح دواعيها وأسبابها لإلغاء مؤتمر كان مقرراً، بعد أيام، في شرم الشيخ يضم وزراء خارجية الدول الثمانية الكبرى ووزراء الخارجية العرب تحت اسم «منتدى الإصلاح والمجتمع المدني»، أو قد تأسف – بلغة دبلوماسية معتادة في مثل هذه الأحوال – عما يمكن أن تتصوره مصر إهانة لحقت بها بإلغاء المؤتمر من طرف واحد.

بصورة مفاجئة أبلغته رايس: «أن ما يجري في مصر من إصلاح سياسي بطيء بما لا يشجع الولايات المتحدة وحلفاءها الكبار على المشاركة في مؤتمر من أهدافه الرئيسية دعم وتمويل عملية الإصلاح السياسي في المنطقة العربية».

ثم مضت، بلغة غير مسبوقة في التحدث مع رئيس أكبر دولة عربية: «إن الولايات المتحدة الأمريكية تتطلع لانتخابات رئاسية تنافسية حقيقية في مصر بين مرشحين جديين».

بعد مكالمة رايس بأقل من أسبوعين مضت أطراف نافذة في الاتحاد الأوروبي على الطريق الأمريكي الجديد، استخفافاً بنظام الحكم أو القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها، ففي تصريح – غير معلن – لنائب رئيس البرلمان الأوروبي، الذي كان يشارك في المؤتمر البرلماني اليورو - متوسطي منتصف مارس من ذلك العام، أكد أنه سوف يشارك بنفسه في مراقبة الانتخابات الرئاسية المقبلة. في جلسة خاصة جمعته مع بعض مراسلي وكالات أنباء أمريكية سئل: «هل طلبت ذلك الحكومة المصرية؟».. كانت إجابته: «لا، قبلوا أو لم يقبلوا فسوف أراقب مع وفد أوروبي برلماني نزاهة الانتخابات الرئاسية».

أخذت ضغوط الخارج تكبر ككرة ثلج تتدحرج، من قمم الجبال إلى سفوحها.

كان أسوأ ما جرى أن مبارك استجاب لضغوط الخارج دون أن يأبه لتطلعات الداخل، أجرى انتخابات رئاسية قيل بالادعاء أنها تعددية، فيما نتائجها مقررة سلفاً.

كما يحدث – دائماً – في مراحل التحول من نظام إلى آخر تداخلت الصور واحتشدت مسارح السياسة بالفرص والمخاطر معاً، غير أنه عزف عن أية قراءة للتاريخ، كأن الحوادث المتدافعة لا تعنيه، على الرغم من أنها محملة برسائل تنتظر استحقاقاتها في المستقبل المنظور.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2v7s5ua7

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"