المسار الصعب للعملية الانتقالية الليبية

05:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

على خطورتها، فإن الحوادث الأمنية التي حصلت بعد تسلم وتسليم السلطة بين المجلس الانتقالي والمؤتمر الوطني العام، مثل اغتيال العميد محمد هدية الفيتوري المسؤول عن تسليح الجيش الليبي أو الهجوم على سجن المفتوح، وتلك التي ستحصل مستقبلاً، لا تغير شيئاً من حقيقة أن هذا التسلم والتسليم كانا عملية تاريخية بامتياز وحدثاً مفصلياً في عملية التحول الديمقراطي الليبي .

إنها المرة الأولى منذ أكثر من اثنين وأربعين عاماً، هي عمر الدكتاتورية القذافية، التي يجري فيها تداول سلس وسلمي للسلطة من مجلس ثوري انتقالي إلى مجلس تأسيسي منتخب بالاقتراع الشعبي هو المؤتمر الوطني العام . لقد انتخب هذا الأخير في السابع من يوليو/ تموز المنصرم في انتخابات تاريخية هي الأخرى بكل المعايير من حيث النزاهة والمشاركة الشعبية التي بلغت ستين في المئة من الذين يحق لهم الانتخاب، رغم تهديدات ميليشياوية بالتعرض للناخبين . لقد بين الشعب الليبي عطشاً لممارسة الاقتراع ترشحاً وانتخاباً وتنافساً سياسياً .

كذّبت هذه الانتخابات توقعات المراقبين التي كانت مبنية على عقلانية ومنطق . فبعد فوز الإسلاميين في تونس ومصر كان من الطبيعي توقع فوزهم في ليبيا وهي مجتمع تغلب فيه الثقافة الإسلامية والتقوى، وقد غلب الطابع الإسلامي على صفوف المعارضين للقذافي الذي شن عليهم حرباً ضروساً، تماماً كما فعل بن علي في تونس ومبارك في مصر . لقد فوجىء المراقبون بنتيجة انتخابات السابع من يوليو/ تموز التي لم تمنح حزب العدالة والبناء المنبثق من الإخوان المسلمين أكثر من 17 مقعداً من أصل المئتي مقعد التي تشكل منها المؤتمر الوطني . وفي المقابل حصل تحالف القوى الوطنية الليبرالي بزعامة محمود جبريل على 93 مقعداً، في حين آلت المقاعد ال 42 المتبقية من أصل ثمانين مقعداً للأحزاب السياسية إلى الجبهة الوطنية وهي ليبرالية كذلك، وتوزع المستقلون المئة وعشرين مقعداً الباقية .

ورغم اعتراض البعض على قانون الانتخاب المعقد والتقسيم غير العادل بين المناطق لمقاعد المؤتمر الوطني العام (مئة مقعد للغرب وستون للشرق وأربعون للجنوب) فقد تمكن المؤتمر، في جلسته الأولى، من انتخاب رئيسه الذي استحصل على 311 صوتاً في الدورة الثانية للتصويت، وهو المعارض التاريخي المعروف محمد المقريف الذي كان زعيماً في المنفى للجبهة الوطنية للإنقاذ ونجا من عدة محاولات للاغتيال على يد عملاء نظام القذافي . وقد حصل المقريف على 65 صوتاً في الدورة الأولى للانتخاب في مقابل 45 صوتاً لعبد الرحمن السويحلي المدعوم من الإخوان المسلمين وثمانين صوتاً لعلي زيدان المدعوم من محمود جبريل . ويبدو أنه تلقى تأييد الإسلاميين في الدورة الثانية وبعض المستقلين الذي قرروا اختياره عندئذ لأسباب جغرافية (هو من بنغازي التي انطلقت منها الثورة) وليست سياسية أو دينية، على أمل امتصاص التوتر في شرق البلاد، حيث يتهمون السلطة بتهميشهم ويطالبون بمزيد من المقاعد في المؤتمر للتساوي مع المنطقة الغربية . وفي تصريحه الأول أعلن المقريف بأنه سيتم تعيين لجنة لصياغة دستور جديد في غضون شهرين لعرضه على الاستفتاء الشعبي وتشكيل حكومة تشرف على الانتخابات النيابية والرئاسية في العام المقبل .

ولا مناص من التنويه إلى إعلان مصطفى عبد الجليل عن نيته التقاعد بعد تسليم السلطة . إنه أمر نادر أن يعتزل رجل قاد أو أسهم في قيادة ثورة مظفرة، بعد كل المخاطر والتضحيات التي قدمها في سبيل هذه الثورة . ثم إن اعترافاته بالإخفاقات والأخطاء التي وقع فيها المجلس الانتقالي تدل هي الأخرى على أن ثمة ذهنية جديدة في ليبيا تقطع مع المكابرة التي سادت في العقود الأربعة المنصرمة . هذه العقلانية الجديدة الممزوجة بشيء من البراغماتية السياسية والورع والأخلاقية تميز الكثير من الشخصيات التي وصلت إلى السلطة في ليبيا والتي تسهم في زيادة منسوب التفاؤل بمسار العملية الانتقالية، رغم الألغام المزروعة في طريقها والتي ذكرها عبد الجليل في خطاب التسليم .

من هذه الألغام نزع سلاح الميليشيات المنتشرة في البلاد التي لا ينبغي التعامل معها كعصابات بل كأفراد، كما أعلن رئيس الوزراء الكيب . لكن من يملك أن يقنعها بالتخلي عن السلاح أو يجبرها على ذلك من دون مقابل؟ إنها عملية تفاوضية ستكون معقدة وقد يتم ترحيلها إلى حين اتمام العملية الانتقالية، وهذا سيشكل خطراً كبيراً على هذه العملية . لا ننسى أن المجتمع الليبي قبلي بامتياز وهناك اليوم اشتباكات بين القبائل في الجنوب، غير الآهل بالسكان لحسن الحظ . والخصومات القبلية ستعرقل بالتأكيد صياغة وتبني الدستور الجديد إلى درجة أن هناك من يقول إن ليبيا هي صومال ثانية كون الحكم الفعلي بيد القبائل والميليشيات المسلحة . ولا ننسى المعضلة الاقتصادية حيث يبلغ العاطلون عن العمل، لاسيما من الشباب الذين صنعوا الثورة، أكثر من ربع السكان القادرين على العمل .

على الليبيين اليوم ليس إعادة إعمار بلدهم، كما هو الحال في تونس أو مصر، ولكن بناء الدولة من الصفر، إذ إنها عملياً لم تر النور منذ الاستقلال في العام ،1951 وتوحيدها في مملكة سنوسية بفضل اكتشاف النفط في العام 1959 . والسياسيون الجدد يحملون خطاباً فيه الكثير من الاعتدال والقطيعة مع الخطاب الثوري العشوائي الماضي، لكنهم لا يملكون خبرة في عالم السياسة المعقد، فالقذافي كتم الأنفاس ووضع المعارضين في السجون والقبور والمنافي . وبذلك لا بد من توقع الصعوبات الهائلة والاضطرار للجوء إلى الخبرات الأجنبية الأمر الذي يفتح الأبواب على مصاريعها لكل أنواع التدخل الخارجي في شؤون هذا البلد الغني والواعد .

لقد كذبت ليبيا حتى الآن تحليلات من تنبأوا لها بحرب أهلية مديدة وفوضى وتقسيم إلى دول ثلاث أو على الأقل تعثر العملية الانتقالية وتوقفها . في المقابل بات بإمكاننا أن نتوقع استمراراً لمسار الانتقال السياسي الديمقراطي بالرغم من كل العقبات التي ستنتصب في طريقه .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"