حين يصبح الحزن فرحاً

23:50 مساء
قراءة دقيقتين

محمد عبدالله البريكي

لا تنفصل طموحات الشاعر عن رؤاه التي تهندس خط سيره، لكن هذه الطموحات والرؤى تبقى عاجزة عن الانطلاق في دروب القول وظلال المعاني، ولا تستطيع التحليق إلى سماوات الدهشة والوصول إلى مدن القصيدة دون زاد يمنحها طاقة الحركة لتقرر المسير بغية الهبوط في مطارات تلتقي فيها روحه بعشاقه ومريديه.

ولا تكاد موضوعات الشعر العربي منذ نشأته تخلو من الحزن الذي هو الوجه الجلي للمعاناة، هو الطلل الذي بكى عليه الشعراء فنبتت من دموعهم أشجار قصائدهم التي نتفيأ ظلالها ونجلس حولها نستمع إلى غناء طيرهم، ويشترك الشعراء في الكتابة والحديث عن الحزن غنيهم وفقيرهم، فكلهم يتزود من هذا الزاد كي يصل به، فامرؤ القيس جعله أوكسجينه الذي يمنحه الحياة كي يصل بها إلى «فاطمِه»، وهو بمفتتحه الذي أصبح رمزاً لهذا الزاد «قفا نبكِ» قد رسم خط سيره وسير من بعده، فهو يتنقل به إلى حبيبته، ويقول لها: «أغرك مني أن حبك قاتلي/ وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ».

إنها المعاناة الحقيقية التي أثْرت الشعر وأثّرت فيه، ولا يمكن أن يفتح الحزن بوابات القلوب ما لم يكن صادقاً، وهو ما عبر عنه عنترة بن شداد حين خاطب طيراً على الغصن، وما ذلك الطير إلا الذات الأخرى التي يستهدفها بشعره ليقول: أنا دمعي يفيض وأنت باكٍ/ بلا دمعٍ فذاك بكاء سال.

هذا الحزن هو ذاته الذي أنقذ كعب بن زهير من الموت، حزن جعله يهيم به ويقيم صلبه قبل أن يأتي بقلبه المتبول السقيم طالباً الصفح: «بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ/ متيّمٌ إثرها لم يجز مكبولُ» هذه المعاناة هي ذاتها التي توارثها الشعراء جيلاً بعد آخر، وجعلت أبا العلاء المعري يرى أن الحزن هو الفرح، فهو وجه العملة الآخر، فحزن الشاعر وهمه وانكساره ووجعه ما هو إلا سبيل إلى سعادة المتلقي، فبالشجن يطرب الناس، ولذلك يطلب منا التأمل في تساؤلاته: «أبكت تلكم الحمامة أم غن.. ت على فرع غصنها الميادِ» وحين زاد الحزن وتكاثر على أبي الطيب المتنبي، أطلق صرخة من نار تغلي في جوفه، إنها نار الحزن وحرارة الوجع وغليان الانكسار، احترق بها ليمنح الكون بخوره وعطره: واحرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ/ وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ. مالي أكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي/ وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدَولَةِ الأمَمُ.

فالرؤى العالية والطموحات الغالية تزودت من هذا الزاد، فهو كالدواء المر تتناوله النفس طلباً في الاستشفاء، والشاعر برؤاه وطموحاته لا يحمل الورد، لكنه يبلل الأرض كي تنبت من دمعته الورود، وتقوده بوصلة القصيدة إلى المنفى ليبني من معاناته وطناً للقصيدة، يتركه عامراً، ويشعر بعدها أنه حقق طموحه، وأرسى رؤيته من أدوات الحزن الذي ورثه عن أسلافه وكأنه حين يتحدث عن معاناة أحدهم يقول: كلنا ذاك الرجل.

[email protected]

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y72feeac

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"