سؤال الإنقاذ الواجب طرحه

05:36 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. علي محمد فخرو

منذ بضعة أشهر، تفاءلنا بمجيء الحراكات الجماهيرية الجامعة، المتخطية للولاءات المذهبية، والقبلية، والعائلية، المتجذرة في الكثير من بلاد العرب، التي انطلقت في شوارع عواصم ومدن السودان، والجزائر، ولبنان، والعراق.
ومع أن تلك الحراكات كانت تتمة لموجة ما يسمى «الربيع العربي»، وكانت ترفع الشعارات المطلبية نفسها، إلا أنها تميّزت بخاصيّتين: السلمية المبهرة من جهة، والإصرار على وجود قوة سياسية جديدة غير ملوثة بالفساد والتسلط، تتخطّى الطبقة الحاكمة السابقة، وتهيئ لفترة حكم انتقالية قادرة على نقل تلك المجتمعات إلى برّ الأمان الديمقراطي السياسي والاقتصادي القائم على العدالة، والمواطنية المتساوية، والقانون الشرعي، ونزاهة الحكم.
وبالفعل، بدأت رياح التغيير في المشهد السياسي تهبّ بصور مختلفة، وبدرجات متفاوتة. لكن النجاح السوداني كان هو المثل الذي حمل أملاً كبيراً في حدوث تغييرات جوهرية مستقبلية.
لكن يتبين يوماً بعد يوم، أن قوى الدولة العميقة في الكثير من بلاد العرب، التي هي خليط من قوى مالية، وعسكرية، واستخباراتية، وتحالفات مع قوى خارجية، لن تغيب عن المسرح من دون خوض معركة حياة، أو موت، وأن في يدها الكثير من الحيل والأساليب لحرف تلك الحراكات السلمية النبيلة عن الطريق الذي اختارته لنفسها في البداية، ولإدخالها بالتالي في متاهات غامضة تجعل تلك الحراكات تدور حول نفسها حتى لا تصل إلى تحقيق أهدافها الكبرى التي أشهرتها.
وهكذا نرى أمامنا الآن كيف أقحم موضوع التطبيع مع الكيان الصهيوني، إبّان أحلك أيام النضال العربي - الفلسطيني أمام المؤامرة الأمريكية - الصهيونية، حتى تعم الانقسامات والصراعات فيما بين مختلف القوى السياسية المدنية السودانية، وحتى ينشغل الحكم الحالي بموضوع كان يجب تأجيل النظر فيه إلى ما بعد الفترة الانتقالية الحالية، وإلى حين وجود سلطة تشريعية شرعية منتخبة بنزاهة، وممثلة بصورة حقيقية لمجموع المواطنين.
وبالطبع، فان الإنسان لا يحتاج إلى جهد كبير ليكتشف ما تخطط له الأيادي الخارجية، المتناغمة مع البعض، للتآمر على كل أمل في كل بلاد العرب، لزرع اليأس والتشويه في كل حراك واعد، كحراك السودان الشقيق.
وهكذا أيضاً نرى أمامنا لعبة تسمية رؤساء وزارات مقبولين من جموع الحراكات الجماهيرية التي تجوب شوارع هذا القطر العربي، أو ذاك. فبعض قوى الدولة العميقة تظلّ تلعب لعبة الشد والتراخي وإرسال البالونات لمعرفة مقدار تصميم الصامدين في الشوارع.
وتمر الأسابيع والشهور من دون الوصول إلى تسميات معقولة، وحلول مطمئنة، أملاً من قوى الدولة العميقة بأن ينقسم الناس حول هذه التسمية، أو تلك، ويملّوا، ثم ينصرفوا إلى بيوتهم.
قوى الدولة العميقة تعرف جيداً، عن خبرة تاريخية طويلة، أن نفَس الجماهير قصير، وصبرها محدود، خصوصاً إذا كانت الأغلبية من ذوي الخبرة السياسية المحدودة، والتجارب النضالية المتواضعة.
فاذا أضفنا إلى كل ذلك حملات التخويف والتهويل بشأن الأوضاع الاقتصادية المتأثرة بوجود عدم الاستقرار المجتمعي والأمني، من دون الإفصاح عن الانتهازية الخارجية والفساد الداخلي للاستفادة السريعة القصوى من أوضاع مجتمعية صعبة كهذه، فإننا ندرك مدى الضغوط النفسية التي يواجهها شباب وشابات تلك الحراكات الإصلاحية في طول بلاد العرب وعرضها.
ما المطلوب أمام كل ذلك؟ المطلوب هو أن يسأل كل من يقف مع الجموع المحتشدة نفسه: هل أنا موجود كفرد حر مستقل، أم أنني موجود كفرد منتظم متضامن متعاضد مع إخوة مناضلين آخرين في نقابة، أو حزب سياسي غير ملوّث بسخافات وفساد الحكم، أو جمعية مهنية، أو حقوقية، أو نسائية، أو تجمع طلابي؟
في رأينا أن الجواب عن السؤال الأخير سيحكم مستقبل الحراكات الجماهيرية في تلك الأقطار، وفي غيرها. وقوى الدولة العميقة المتفاهمة المتناغمة المتعاضدة، لن تتوقف عن لعب الحيل، والتضليل، والإنهاك التي ذكرناها، إلا إذا واجهت قوى مجتمع مدني منتظمة متفاهمة، مكونة من ملايين الأعضاء المناضلين الواعين، وليس الأفراد المتحمسين القلقين. شباب وشابات الأمة العربية يجب أن ينتقلوا إلى وضع العمل المدني المنظم الفاعل حتى لا تبقى الحراكات العربية أصوات وأناشيد حماس وغضب وتهديد، ما يعطي الدولة العميقة القدرة على فعل ما تفعله، تمهيداً للقضاء على أنبل ما عرفته هذه الأمة في منعطفها التاريخي الحالي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"