رابعة الثلاث

00:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد عبدالله البريكي

أثناء مشاركتي في معرض تونس الدولي للكتاب طلب مني بعض الأصدقاء المهتمين بالقصيدة تنظيم أمسية في تلك المدينة التي تبعد عن العاصمة ما يزيد على 150 كيلومتراً، وإكراماً لذلك الحب الجميل للشعر قررت قبول الدعوة للالتقاء بوجوه جديدة وملامسة حبهم لديوان العرب، وهو ما أكده الحضور الجميل عدداً وتفاعلاً ومحبة وحميمية، ولم تكن الأمسية بما فيها من تفاعل هي الأبرز في الذاكرة، إنما هي الزيارة التي سبقتها، والمرور في المدينة العتيقة التي تبث الحياة في مبانيها وشكلها التاريخي، فذلك السور الذي يحيط بها أعاد إليّ لحظتها مشاهد المسلسلات التاريخية العديدة التي تحدثت عن الفتوحات، وعن دور تلك المدن في صد الغزوات والانطلاق إلى العالم من أجل نشر العلم والمعرفة والسلام ورسالة الإنسانية والمحبة، ذلك السور الذي جعلني مندهشاً من طريقة بنائه في تلك الفترة، فمن يقف بجانبه يتساءل عن تلك العظمة والقوة والإصرار من أولئك الذين عاشوا في تلك المرحلة، وهم لا يملكون أدوات ورافعات عظيمة تجعل من البناء سهل التنفيذ.

دخلت إلى ذلك المسجد الذي بداخل السور، وهو في الحقيقة سور آخر لأنه أخذ الدهشة ذاتها التي في السور الخارجي، وقفت في محراب الجامع، فأعاد إليّ ذلك الرجل العظيم الذي أنشأ هذه المدينة عام 50 ه 670 م لتكون تلك المدينة من أولى وأهم المدن الإسلامية في المغرب العربي، وكان أهل المغرب العربي يضبطون قبلتهم على قبلة هذا المسجد، وأراد لها هذا الرجل أن تكون مكان استقرار للإسلام وأهله، وأن تنطلق منها الدعوة والجهاد في آن، وبعد أن أقامها وانتهى من بنائها أقبل يدعو لها ويقول في دعائه: اللهم املأها علماً وفقهاً، واعمرها بالمطيعين والعابدين، واجعلها عزاً لدينك وذلاً لمن كفر بك، وأعز بها الإسلام.
أخذت تلك المدينة مكانة علمية رفيعة في المغرب العربي سبقت مدناً أخرى مثل قرطبة والأندلس، ولا يزال جامعها الكبير الذي بناه هذا الرجل يزاول مهنة التدريس مع المساجد الأخرى، ويفد إليه العديد من طلاب العلم والمعرفة والفقه والقرآن، لتكون ملتقى للعلماء والفقهاء ورجال الدعوة، ومدرسة تؤصل المعرفة وتجعلها مصدر إشعاع كبير، وبها العديد من المكتبات العامة والمهمة وربما من أشهرها بيت الحكمة الذي أنشأه إبراهيم الثاني الأغلبي 261 ه محاكاة لبيت الحكمة الذي أنشأه هارون الرشيد في بغداد، إضافة إلى أن من تلك المدينة خرج شعراء ومثقفون ذاع صيتهم في تاريخنا الشعري أمثال الفقيه الكبير القاضي سحنون الذي يعد مرجعاً لرجال الديوان فيها، والحصري القيرواني الذي اشتهر بقصيدة يا ليلُ الصبّ متى غدهُ/ أقيامُ الساعةِ موعدُهُ، وابن رشيق القيرواني.
إن مدينة القائد والفاتح والمؤسس لها عقبة بن نافع التي أطلق عليها الفقهاء رابعة الثلاث بعد مكة والمدينة والقدس مدينة تعض على التاريخ بالنواجذ، وتتمسك بالتراث والحضارة، وكان لها دور عظيم في المحافظة على لغة العرب والشعر، وهذه المكانة التاريخية الرمزية للقيروان جعلت لها نصيباً من الاختيار ليكون بها بيت جديد للشعر ينشأ ضمن مبادرة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، حفظه الله، وها أنذا أعود إليها مبتهجاً بهذا التكليف من قبل رئيس دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، ففي هذه المدينة في وقتنا الحالي العديد من الشعراء المجيدين الذين حافظوا على إرث العرب وكنزهم وديوانهم الشعري، وهم المعوّل عليهم في مواصلة هذا العطاء ليكون للشعر ولغة العرب مكانتها، ولتكون القيروان كما أرادها عقبة بن نافع سداً وحصناً منيعاً ضد كل تغريب للغة وكل تشويه لصورة الشعر، وكل محاولة لقطع حبل التواصل مع الحضارة والتاريخ العربي العظيم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"