الإفقار والنيوليبرالية والمجتمع المدني

02:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

في نسق ممنهج استخدمته الشركات العولمية، وما يدور في فلكها من مراكز أبحاث وشبكات إعلام ضخمة، ومفكرين، وأكاديميين، تمّ الترويج لقيم جديدة، ذات صبغة عالمية، تحت مسمّيات عديدة، من مثل «المواطن العالمي»، و«الحدود المفتوحة»، و«ثقافة حقوق الإنسان»، وما شابه من مفاهيم تبشّر بعالم جديد، أكثر عدلاً ومساواة ومشاركة بين البشر، وفي الوقت ذاته، تمّ الترويج لنهاية مفاهيم سادت لوقت طويل، من مثل الدولة القومية، ومقاومة الاستعمار، والعدالة الاجتماعية.
في النسق الجديد الذي خطّته العولمة، برز مفهوم المجتمع المدني كمفهوم أساسي، لكن هذه المرّة، سُحب هذا المفهوم من سياقات تاريخية سابقة، وأصبح مرتبطاً أكثر بالقضايا الجزئية، المتعلقة بجماعات معينة من المجتمع، وحيادية تجاه السياسة بمعناها الشامل، وتحوّل قادة المجتمع المدني من مناضلين إلى «أصحاب الياقات البيضاء»، يحصلون على تمويلات ضخمة من قبل مؤسسات وهيئات أممية أو صناعية أو تجارية كبرى، لدعم مشاريعهم.
بعد حوالي ثلاثة عقود من موجة العولمة الثالثة، أصبحت النيوليبرالية أكثر شعبوية، وأقلّ اهتماماً بما كانت تمثله القيم التي أطلقتها في عقد التسعينات من القرن الماضي، وأصبح الصراع بين قوى النيوليبرالية نفسها أشّد شراسة ووضوحاً من ذي قبل، كما في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتي تغذيها الشركات العابرة للقارات في كلا البلدين العملاقين، وغاب عن الخطاب العولمي، بل وكاد يختفي، الحديث عن نشر الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، مع بروز خطابات أخرى، تركّز على علاقة الفرد بالمنتج/ الماركة، وهو ما يسهم في تحويل الأفراد من كونهم مواطنين إلى كونهم زبائن للسلع، وخصوصاً السلع الفاخرة.
عالمياً، ثمّة تراجع كبير في التطرّق إلى الفقر كظاهرة عالمية، أي ارتباطه أكثر فأكثر بالسوق المعولمة، في الوقت الذي احتّلت فيه قضايا أخرى الفضاء العام، فمنذ سنوات طويلة أصبح «الإرهاب» ظاهرة أكثر حضوراً في الرأي العام العالمي، مع سعي حثيث إلى التعامل معه من بوابة التحليل الأمني، والتنسيق الاستخباراتي، من دون الغوص في الأسباب العميقة لهذه الظاهرة، وعلاقتها بطبيعة الأنظمة السياسية المستبدّة، أو بمستوى الفقر في البلدان التي تعدّ اليوم ساحة للإرهابيين، وكيفية تركّز المال بين أقليات نخبوية، تقود السياسات المحلية (الوطنية)، أو الدولية، وتتحالف فيما بينها.
حدّد البنك الدولي خطّ الفقر في عام 2015 ب1.90 دولار في اليوم للفرد الواحد، ويتضمن هذا التعريف تأكيداً على أنه الحدّ الذي يمنع الفرد من الجوع، أي أنه مرتبط مباشرة بالحصول على الطعام، من دون الاعتبارات الأخرى المتّصلة بالصحة والخدمات والتعليم والتنقّل والحصول على الماء النظيف والكهرباء، وعلى الرغم من تصدّر بعض البلدان، بشكل شبه دائم، لقائمة الدول الأكثر فقراً، خصوصاً في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، إلا أن بعض أغنى الدول في العالم اليوم أصبحت تحتل مراتب متقدمة، من بينها الولايات المتحدة، حيث يشكّل عدد السكان الواقعين عند خط الفقر ما نسبته 12% من العدد الإجمالي لعدد السكان.
وفي البلدان الأوروبية، حيث تقوم دولة الرعاية، فإن معايير الفقر مختلفة، ويستبدل معيار خط الفقر بمعيار «المهدّدون بالفقر والتهميش الاجتماعي»، وهو الذي يعتمده الاتحاد الأوروبي.
أما في العالم العربي فإن الأرقام تبدو صادمة ومحرجة، فبحسب تقرير للأمم المتحدة، صادر في مارس/ آذار من العام الجاري، فإن 83% من سكان سوريا يقعون تحت خط الفقر، ولئن كانت نسبة الفقر قد ازدادت بشكل كبير في البلدان العربية التي تمزقها الحروب، فإن الدول المستقرّة سياسياً ليست أفضل حالاً، وتصل نسبة الفقراء في بعضها إلى 60% من عدد السكان.
تشير كل الوقائع إلى أن ما بشّرت به العولمة من قيم هي اليوم محطّ شك كبير، وأن النيوليبرالية هي المستفيد الوحيد من الموجة العولمية الثالثة، والتي دفعت العالم إلى انقسام حدّي بين قلّة من الأغنياء شديدي الثراء وبين أكثرية من الفقراء أو المهدّدين بالفقر، مع تراجع كبير للطبقة الوسطى في كل بلدان العالم، مع إضعاف ممنهج للحركات السياسية التي تدافع عن حقوق الفقراء والمهمّشين، واستبدالها بمنظّمات المجتمع المدني، والتي تقتات على موائد الجهات المانحة الدولية، وتتبع أجنداتها وسياساتها، بعيداً عن القضايا الكبرى والجذرية، مثل قضية العدالة الاجتماعية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"