الاستفتاء البريطاني كما قرأه الأمريكيون

04:22 صباحا
قراءة 3 دقائق
لسنوات طوال ظلت بريطانيا رأس الجسر الممتد عبر ضفتي الأطلسي لعبور الولايات المتحدة إلى قلب أوروبا، وكانت لندن وستظل، إلى أجل غير مسمى، أقرب وأهم حليف أمريكي في القارة العجوز وفي العالم. أقيم التحالف الاستراتيجي الراسخ بينهما على أرضية صلبة من المصالح والثقافة واللغة والتوجهات السياسية المشتركة.
يفسر هذا التطابق الاهتمام الأمريكي غير العادي بالاستفتاء الذي أجري في بريطانيا وانتهى بموافقة الأغلبية على الخروج من الاتحاد الأوروبي. لم تعتبر واشنطن الاستفتاء، قبل وبعد ظهور النتيجة، شأناً بريطانياً داخلياً، بل قضية مصيرية تتعلق بمصالحها وأهدافها الوطنية. ولم تظهر اهتمامها بالاستفتاء فحسب بل عبرت عن موقف محدد قبل أن يجري هو تأييدها لبقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي. لم يدع الرئيس أوباما الحياد أو حتى يتظاهر به من قبيل المواءمات الدبلوماسية، بل جاهر بتأييد استمرار عضوية بريطانيا معللاً ذلك بأنه يعطي ثقة أكبر لبلاده في التحالف عبر الأطلسي، ويجعل العالم أكثر أمناً ورخاء.
موقف أوباما لم يكن وليداً لانفعال عاطفي دعماً للوحدة الأوروبية، ولكنه انعكاساً حقيقياً لرؤية بلاده لمصالحها، وتعبيراً عن مخاوفها من عواقب الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي. تشعر واشنطن بالقلق إزاء مستقبل علاقتها وحجم تعاونها مع الاتحاد، وقوة نفوذها داخله بعد خروج أهم حلفائها منه. كما تشعر بقلق له ما يبرره على مستقبل الاقتصاد الأوروبي والعالمي نتيجة لهذا الخطوة.

وتقدم المخاوف الأمريكية وجهاً واحداً لأسباب اهتمام الأمريكيين بالاستفتاء ونتائجه، بينما يبقى جانب آخر لا يقل أهمية وهو تأثير النتائج في الانتخابات الرئاسية التي تجري في نوفمبر المقبل. الانطباع الذي انتشر سريعاً هو أن المرشح الجمهوري دونالد ترامب هو الفائز الأول في الاستفتاء على ضوء أوجه الشبه العديدة بين حملته الانتخابية وحملة المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وبالتالي فإذا كان هؤلاء قد فازوا فلماذا لا يفوز هو؟.

يدلل أصحاب هذا الرأي على حجتهم بالإشارة إلى حقيقة تقول إن الجانبين، أي ترامب وأنصار الخروج الإنجليزي، كلاهما يمثل صيحة احتجاج وتمرد على ما يعرف اصطلاحاً باسم «المؤسسة». وهو تعبير يشير إلى النخبة الحاكمة والمتحكمة والأفكار التقليدية المهيمنة في المجتمع، والقبضة القوية للدولة في ممارسة سياستها وهيمنتها وفرض سلطاتها ووجودها الثقيل. يقولون أيضاً إن الناخب البريطاني صوت في الواقع على رفض الحدود المفتوحة وضد المهاجرين واللاجئين وهي نفس التوجهات التي يتبناها ترامب.
ملاحظة مهمة أخرى فيما يتعلق بأوجه الشبه بين الجانبين هي أن نفس الشرائح الاجتماعية والعمرية والثقافية التي حسمت الاستفتاء البريطاني لصالح الخروج هي ذاتها الشرائح التي تمثل الكتلة التصويتية الصلبة لترامب. وتتكون في أغلبها من الرجال البيض والمحافظين والأقل تعليماً ودخلاً. وإذا كانت الاستطلاعات لا ترجح حالياً فوز ترامب في الانتخابات، فإنها لم ترجح أيضاً فوز تيار الانفصال أو الاستقلال كما يسمون أنفسهم في بريطانيا.
ترامب إذاً على الطريق إلى البيت الأبيض كما يقول أنصاره. غير أن هذا التوقع يبدو متسرعاً للغاية ولا يمكن التسليم به تلقائياً لمجرد توافر بعض أوجه التشابه بين الجانبين.
بالفعل فرص ترامب تبدو أفضل الآن. وقدرة الجمهوريين على عرقلة ترشيحه في مؤتمر الحزب المقبل تآكلت إلى حد كبير. ومع ذلك فإن أمريكا ليست بريطانيا، ولا يعني التصويت لصالح الانفصال هناك فوزه تلقائياً. وكما يوضح ماثيو كوبر في «نيوزيوك» فإن البريطانيين صوتوا لعمل محدد هو مغادرة الاتحاد. أما الأمريكيون فسينتخبون رئيساً، وسيحددون قرارهم على أساس شخصية المرشح ومواقفه وتاريخه وبرامجه، وهي كلها عوامل ليست في صالح ترامب.

ليس في صالحه أيضاً أن الاستفتاء أجري قبل الانتخابات. أي أن التداعيات السلبية المترتبة على التمرد البريطاني ستكون حاضرة أمام الناخب الأمريكي قبل أن يفكر في التمرد هو الآخر في نوفمبر المقبل.

وربما يكون ترامب على حق عندما قال إن الناخبين البريطانيين صوتوا بالخروج من عباءة الاتحاد الأوروبي لأنهم تعبوا من القرارات الغبية التي أرهقت الأمريكيين أيضاً. غير أن الفرق الذي سارعت «واشنطن بوست» إلى توضيحه هو أن الإنجليز كشعب يعتقدون بأنه يمكنهم اتخاذ قرارات أفضل بمعزل عن الأوروبيين، بينما يعتقد ترامب أنه هو شخصياً وربما بمعزل عن الأمريكيين يمكنه أيضاً اتخاذ قرارات أفضل، وهذا أمر مشكوك فيه كثيراً.

عاصم عبد الخالق
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"