من "المقصورة" إلى "الملعب"

05:01 صباحا
قراءة 4 دقائق
سوف ينتقل من "المقصورة الفضية" للقوات المسلحة حيث "الضبط والربط" و"الانضباط والاحترام" إلى أرض "الملعب" المفتوح حيث "الهرج والمرج" في مباراةٍ عنيفة أقرب إلى "المصارعة الحرة" يسعى فيها المتنافسون للوصول إلى "المقصورة الذهبية" "لرئاسة الجمهورية" . إنني أتحدث عن المشير عبد الفتاح السيسي ذلك البطل الوطني الذي أنقذ البلاد والعباد مستجيباً لهدير الجماهير في الثلاثين من يونيو ،2013 وأنا مشفق على ذلك الرجل المتدين دمث الخلق هادئ الطبع، فالنزول إلى "الانتخابات" هو بمثابة النزول إلى الميدان الواسع هبوطاً من "البرج العالي"، ولسوف يرى الرئيس المنتظر الناس على حقيقتهم، ويكتشف أن قطاعاً منهم هم "عتاة المنافقين" و"حملة المباخر" لكل حاكم قائم أو قادم، بينما قطاع آخر يدرس مصائره بعناية ويحدد مواقفه وفقاً "للبوصلة" الرائجة . ولسوف يهاجمه الكثيرون بحقٍ أو بغير حق لأن الانتخابات في بلادنا هي مباراة للتجريح الشخصي وتشويه صورة الخصم، إذ لم نتعوّد على البرامج المكتوبة لكننا تعودنا على الشعارات المسموعة، ولا يخفى على أحد أن مصر تحمل على كاهلها تركة ثقيلة من وقر السنين وخطوب الأزمنة وندوب العصور، "فالكنانة" بلد قديمٌ وعريق اختزن عبر تاريخه الطويل قيماً بذاتها وتحمل دائماً ظروفاً صعبة، ولسوف يجد الرئيس القادم للبلاد أمامه ملفاتٍ ساخنة تبدأ بملف "مياه النيل" ولا تنتهي بملف "الوحدة الوطنية"، إذ إن بينهما معضلات كثر من "تطهير سيناء وتعميرها" إلى "الخروج من العشوائيات أو تطويرها"، وذلك ليس غريباً على بلدٍ تعرض لعملية نهب كبرى عبر تاريخه الطويل من موارده الطبيعية، وعملية تجريفٍ ممنهج عبر العقود الأخيرة لموارده البشرية، إنني أضع أمام الرئيس القادم الحقائق التالية:
* أولاً: إن الشعب المصري قد تغير كثيراً وطرأت عليه في السنوات الأخيرة أحداثٌ سريعة وتطورات متلاحقة، أدت إلى حالة غير مسبوقة من "الانفلات الأمني" بل وحالة غير مقبولة من "الانفلات الأخلاقي"، فعلى الرئيس القادم أن يجعل هيبة الدولة رادعاً لكل من يخرج عن القانون أو يروّع الناس أو يرهب الغير، كما أن قبضته يجب أن تكون قوية ضد كل مظاهر الفساد ومراكز الاستبداد، ولا تناقض على الإطلاق بين هذه المطالب المشروعة ومسيرة الديمقراطية واحترام الحريات، وصيانة "حقوق الإنسان"، بل على العكس فإن هذه المطالب تدعم هذه المفردات العصرية وتجعل "مصر الحديثة" تحسن استغلال مواردها الطبيعية وتجيد توظيف مواردها البشرية .
* ثانياً: إن "ملف مياه النيل" وبناء "سد النهضة الإثيوبي" يتحتم أن يتصدرا قائمة اهتمامات الرئيس الجديد، إذ لا مبرر حينئذٍ للتذرع بفترة انتقالية أو ظروف داخلية فالطرف الآخر يستغل ذلك ليمضي في مزيدٍ من الاستخفاف بمصر القائدة والرائدة مدعوماً بقوى أخرى أدمنت العداء لنا والتربص بالدولة المصرية، ولأن "مصر هبة النيل" فإن هذه القوى تتوهّم أن بيدها خنق مصر وكأننا تسعون مليوناً من العجزة أو الكيانات البلهاء! فعلى الرئيس الجديد أن يبعث برسائل واضحة تؤكد أن الشعب المصري يحارب حتماً إذا تهددت فيه الأرض أو المياه لأنها هي الحياة .
* ثالثاً: إن ما يجري في سيناء سوف يفرض نفسه بالضرورة على الرئيس الجديد ويصبح واحداً من شواغله الكبرى، فليس "نيلنا" فقط هو المستهدف وحده، لكن أرضنا المقدسة أيضاً محل أطماع وأحقاد من كل الاتجاهات، ولسوف يقاتل المصريون من أجل "الأرض" و"النهر" حتى الرمق الأخير في حياتهم، إن الذين يحاولون أن يجعلوا من سيناء مركز جذب للتجمعات الإرهابية من أنحاء العالمين العربي والإسلامي هم أولئك الحاقدون على ترابنا الوطني والذين تسبب لهم "مصر الدولة" أرقاً وقلقاً على مر العصور!
* رابعاً: إن إصلاح التعليم يقع بين أولويات العمل الوطني الجاد في المرحلة المقبلة، ولعلنا نعترف الآن أن تدهور التعليم المصري في العقود الأخيرة قد أدى إلى تراجع دورنا الإقليمي فضلاً عن قصور البحث العلمي وشيوع البطالة كما أنه أدى إلى تكريس الصراع الطبقي وضرب العدالة الاجتماعية في مقتل لأن تعددية مصادر التعليم بين عامٍ وخاص، وبين مصري وأجنبي، وبين حكومي وديني فضلاً عن المصاريف الباهظة للتعليم الاستثماري الذي يحقق أصحابه أرباحاً طائلة على نحوٍ يؤدي إلى حرمان الطبقات الفقيرة من إرسال أبنائها وبناتها إلى المؤسسات التعليمية التي أصبحت قاصرة فقط على من يملكون وحدهم حتى اقترن التفوق بالارتياح المادي الذي أعطى أصحابه ميزة على سواهم وأنهى أسطورة تكافؤ الفرص التي تحدثنا عنها وتشدقنا بها طويلاً، إن إصلاح التعليم هو طريقنا الأوحد للإصلاح الشامل في نواحي الحياة المختلفة، وحتى الرعاية الصحية ترتبط هي الأخرى بتدريس الطب وتعليمه فضلاً عن تطوير التمريض والتدريب على مواجهة الطوارئ، فإصلاح التعليم يعني تلقائياً إصلاح باقي المرافق الأخرى في أنحاء البلاد .
* خامساً: سوف تظل "العشوائيات" التي تحيط بالعاصمة والمدن الكبيرة في المحافظات بمثابة قنابل موقوتة ومراكز اشتعال وبؤراً لتجمعات "المعذبين في الأرض" من "البؤساء" الذين يعانون نقصاً حاداً في الخدمات وتدنياً شديداً في مستويات المعيشة، لذلك يجب أن يكون لمصر برنامج إصلاحي عاجل ينهض بتلك "العشوائيات" ويحيلها إلى تجمعاتٍ بشرية تليق بالمستوى الآدمي وتصل إليها المرافق ويسود في ربوعها الأمن، وأنا أعرف أن هناك مشروعاتٍ كثيرة لإنقاذ سكان "العشوائيات" منها على سبيل المثال الجهد الذي تبذله "القوات المسلحة المصرية" حالياً في هذا الشأن إضافة إلى الجهود التطوعية للمجتمع المدني والتي تعتبر مبادرة الفنان "محمد صبحي" نموذجاً لها .
. . هذه قراءةٌ عامة في محاولة للتقليب بين العناصر الانتقائية التي لابد أن يحتويها ملف الرئيس القادم، وإذا كانت حظوظ المشير السيسي تبدو أكثر من سواه فإن الرجل يبرح "مقصورته الفضية" في قيادة القوات المسلحة ليهبط إلى الملعب المفتوح بما له وما عليه ملتزماً بمبدأ التضحية من أجل بلاده كما تعود دائماً إلى أن يصل إلى "المقصورة الذهبية" للرئاسة ومعه ملفات واضحة وبرامج مدروسة خصوصاً وأن مصر قد عانت كثيراً من الذين تعاملوا معها كحقل تجارب، وقد حان الوقت لكي تصبح دولةً ذات رؤية بعيدة وفكرٍ عميق ونظرة حكيمة . . إنها في النهاية مصر التي تجلى فيها سبحانه وتعالى "لموسى الكليم" عندما تحدث إلى ربه من "الوادي المقدس طوى"!

د .مصطفى الفقي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"