نحن والعالم

04:48 صباحا
قراءة 5 دقائق
كلما سافرت إلى الخارج وتجولت بين شعوب الدنيا وأمم الأرض، شعرت أننا كعرب عموماً ومصريين خصوصاً نعيش ضد حركة التاريخ بل وخارج إطاره العام الذي نشهده بوضوح في مدن العالم صغيرة وكبيرة، فالكل يتقدم إلى الأمام ونحن نتراجع إلى الوراء فقط، بل نضيف إلى حياتنا هموماً جديدة ومظاهر متخلفة وتصرفاتٍ غير مسؤولة توحي بأننا نتجه إلى أسفل ونحن في مكاننا بعد أن تجاوزنا مرحلة التراجع بكثير .
إنني لست متشائماً بطبيعتي ولكن كلما أحسست أن الآخرين يتقدمون بينما نحن مشغولون بجدل "سفسطائي" وأحاديث لا تنتهي حول الماضي الذي لا نتعلم منه أو الحاضر الذي لا نعيشه، حيث نحاول فلسفة كل ما فيه مع تبرير الأخطاء دائماً وتجميل الحياة شكلياً، وأنا لا أنكر أن اسم مصر كبير يجذب نحوها كل من يحاول أن يرصد ما يدور فيها، ولكن الذي يزعجني حقيقة هو أن أرى الآخرين يتحركون إلى الأمام ونحن مشغولون بالتنبيش في الماضي وتوزيع الإدانات ونشر الاتهامات وترديد الشائعات، أما العمل والإنتاج فقد أصبحت مسائل هامشية يتشدق بها المسؤولون ولا يهتم بها الشعب العادي المنخرط بشدة في الاعتصامات والاحتجاجات والاضرابات، ولا بأس فهذه ظواهر ديمقراطية معهودة، ولكنها يجب أن تقترن بإحياء حقيقي لتحرك سياسي وتعبئة شعبية لدعم الاقتصاد الوطني وتحريك الاستثمارات الأجنبية والمشروعات التنموية للخروج من عنق الزجاجة التي حشرنا فيها الماضي المؤلم بكل مراحله وعهوده من دون استثناء! ولعلي أشير هنا إلى بعض الملاحظات التي تعنينا في هذا السياق:
* أولاً: إن العزلة الدولية أصبحت تعبيرًا نظرياً، فباستثناء نموذجي كوريا الشمالية وكوبا إلى حدٍ ما لا توجد أسوار مغلقة تحجز الحقيقة أو تخفي المعلومة، وحتى "سور الصين العظيم" قد انهار معنوياً في السنوات الأخيرة بفعل طرقات التحوّل في الاقتصاد الصيني الجديد والقفزة الصناعية الهائلة والتحول التجاري الكبير الذي يغزو أسواق العالم، لذلك فنحن جزءٌ لا يتجزأ من القرية الكونية الكبيرة لا نستطيع الانفصال عنها أو رفض الاندماج فيها، كما أن المسؤولية الدولية
أصبحت جماعية لا تستثني أحدًا، فالمخاطر التي
تحيط بالحياة والأحياء أصبحت تستلزم منّا ضرورة الشراكة البشرية في إطار الإنسانية كلها للحفاظ على الكون وضمان استمراره .
* ثانياً: إن مصر دولة مركزية محورية بمنطق الجغرافيا وحكم التاريخ فهي لا تستطيع ولا تحتمل ألا تكون جزءًا فاعلاً على المستويين الدولي والإقليمي، وذلك يذكرنا بأهمية الدور الذي يجب أن تلعبه مصر في المنطقة والذي تراجع نسبياً في العقود الأخيرة تحت دعوى أن بناء الداخل شرط لنفوذ الخارج وهذا أمر صحيح، ولكن ذلك يمضي من خلال حلقة متبادلة فتأثير الخارج على الداخل متبادل في نفس الوقت ولا يمكن وضع خط فاصل بين العمل الداخلي والجهد الإقليمي، وقد تعودت مصر منذ العصر الفرعوني أن تعيش بمن حولها في تفاعل مشترك جعل لها القيادة والريادة في الحرب والسلام معاً .
ومنذ ثورة 25 يناير وقد تشكل انطباع لدى كثير من القوى الأجنبية نشعر به في الخارج أن مصر في محنة تبعدها عن هموم المنطقة وقضاياها ومشكلاتها، ولعل تحرك وزير الخارجية الحالي السفير نبيل فهمي في الأمم المتحدة والهند ولبنان والقارة الإفريقية وغيرها هي محطاتٌ تعطي الأمل في استعادة قوة الدفع وعودة الروح .
* ثالثاً: إن نظرة الآخر إلينا تكتسب أهمية خاصة من تأثيرها على طبيعة العلاقات معنا إذ يجب أن ندرك أنه ليس المهم ما نراه نحن في أنفسنا بمجرد ترديد الشعارات العاطفية والخطب الحماسية والاستطراد في الإشارة إلى الماضي التليد والتراث الباقي، إذ يجب أن نفكر أيضاً فيما يمكن أن نفعله لهذا الوطن، فالمصريون من أكثر شعوب الأرض ترديداً للأناشيد الوطنية وحديثاً عن عشق الأرض الطيبة، ولكننا لا نرقى إلى مستوى ذلك بالعمل الجاد والإنتاج الحقيقي . ولقد عرفت شعوب أخرى ذلك عنا وبدأت تقارن بين ماضينا العظيم وحاضرنا المضطرب وتدرك أن شيئاً ما قد حدث لنا في العقود الأخيرة، فقد تضاعف سكان مصر مرتين، بينما انخفضت نوعية الإنسان المصري درجتين على الأقل أيضاً، فالأسر التى حددت عددها ونظمت نسلها هي الأسر القادرة على تعليم الأبناء ورعايتهم، بينما تركت الأسر الأكثر عدداً والأشد فقراً الحبل على الغارب، وأصبحت تمثل الأغلب الأعم من سواد المصريين، فانخفضت نوعية المصري الذي كان يبدو للدنيا نموذجاً مبهراً في العطاء بغير حدود، والذكاء من دون منافسة حتى توارت عبقرية الزمان والمكان في خضم سوء الإدارة وزحام الفساد وقبضة الاستبداد .
رابعاً: لقد كانت السلعة الثقافية ولا تزال سواءٌ هي أثر تاريخي أو كتاب محوري أو صحيفة مؤثرة أو فيلم هادف أو مسرحية متميزة، هي أدوات المصري في الدولة الحديثة للوصول إلى قلوب أشقائه في المنطقة، وعندما توارى الدور الثقافي والتعليمي لمصر في العقود الأخيرة توارى معه أيضاً الدور الإقليمي برمته، وأصبحت مصر تبدو للبعض وكأنها تعاني من تركة "الرجل المريض"، الكل يتطلع لوراثة دورها من الخارج والبعض يحاول نهش أحشائها من الداخل، حيث أن فصائل معينة ترى فيها جائزة كبرى ونقطة انطلاق للسيطرة على العالمين العربي والإسلامي باسم الدين بعد ضرب الفكر الوسطي المصري والشخصية الوطنية المعتدلة . لهذا فإنه يجب أن يفهم الجميع أن المحنة ليست اقتصادية فقط، ولكنها أيضاً ذات طابع ثقافي واجتماعي على نحو قد يكون أكثر تأثيراً في مستقبل البلاد والعباد .
* خامساً: إننا نرى أن مستقبل الوطن المصري محكوم بإرادة أبنائه، أقول ذلك ونحن على أعتاب انتخاباتٍ عامة نختار بها رئيساً جديداً للبلاد، ولن يكون ذلك الرئيس إلا تجسيداً لإرادة هذا الشعب الطيب (فمن أعمالكم سلط عليكم) وكل شعب ينال الحاكم الذي يستحق وكفانا لوماً للضغوط الداخلية أو حديثاً عن المؤامرات الخارجية، فالشعوب هي صانعة الإرادة وقاهرة أعدائها بما تملك من رصيد في الماضي وفطنة في الحاضر ورؤية للمستقبل .
. . إنني أتوجه إلى المصريين والمصريات كمواطنٍ عرف دهاليز السياسة وخبر كواليس الحكم قائلاً لهم ليس المهم هو البرامج المحبوكة ولا الأفكار المؤثرة ولا الخطط اللامعة، المهم هو أن يكون الحاكم صاحب رؤية مضيئة وخيال خصب وقدرة على استشراف المستقبل بوعي وحكمة وروية في إطار الوطنية المصرية والالتزام بقضية العدالة الاجتماعية لأن غيابها هو السبب الأول لثورات المصريين عبر تاريخهم الطويل!

د . مصطفى الفقي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"