محاكمة الحروب ومنطق الدول

04:15 صباحا
قراءة 3 دقائق
الحسين الزاوي

شكلت محاكمة نورمبرغ وطوكيو بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، المبادئ الأولى التي قام عليها النظام الدولي وميثاق الأمم المتحدة من أجل الدفاع عن السلام العالمي؛ حيث اعتمدت المحاكمات التي طالت مجرمي الحرب في الفترة ما بين 1945- 1948، في المقام الأول، على إثبات تهمة الجريمة ضد السلام وليس ضد الإنسانية، كما يؤكد ذلك الباحث جون لوغهلاند، من منطلق أن الجرائم كلها تمثل نتيجة منطقية بل وحتمية لجريمة إعلان الحرب وتهديد السلم الدولي، بناء على المقولة السياسية التي تؤكد أنه ليست هناك حرب نظيفة وأخرى قذرة لأن المآسي التي تتسبب بها الحروب تجعل منها مفسدة مطلقة تهلك الحرث والنسل وتفتح الأبواب واسعة أمام كل التجاوزات.
وقد أكد المدعي العام الأمريكي روبرت جاكسون في نص المرافعة التي قدمها في شهر سبتمبر/أيلول سنة 1946، على أهمية محاكمة مجرمي الحرب بتهم تتعلق بتهديد السلم الدولي وقام القضاة بعد ذلك بترديد عباراته بشكل حرفي عندما قالوا: إن إطلاق حرب عدوانية لا يمثل فقط جريمة ذات طابع دولي، إنها الجريمة الدولية القصوى، وهي لا تختلف عن باقي جرائم الحرب الأخرى إلا من حيث أنها تشتمل عليها جميعاً. ولذلك فقد حرصت الأمم المتحدة في تشريعاتها على مبدأ التحرك سياسياً من أجل منع قيام الحروب وعسكرياً بغرض منع من أعلن الحرب من الخروج منها منتصراً، وذلك وصولاً إلى تحميل المسؤولية الجنائية كاملة لكل من يبدأ في العدوان على الآخرين.
ويمكن أن نلاحظ أن هذا المبدأ الأساسي الذي قام عليه النظام الدولي بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، جرى التخلي عنه تدريجياً عندما قام المشرعون باستبدال جريمة تهديد السلم بجرائم أخرى مثل الجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية، ليتم بذلك إغفال قاعدة أن من يهدد السلم ويخلق الفوضى وينسف مؤسسات الدول يعتبر مسؤولاً بشكل مباشر عن كل ما يمكن أن يترتب من نتائج وخيمة، وهو الأمر الذي أشارت إليه حنة أرنت عندما أكدت أن غياب الدولة يمثل دعوة مفتوحة لممارسة العنف.
وبالتالي، فإن إقامة المحاكم الدولية الخاصة في التسعينات من القرن الماضي لمحاكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا ورواندا مثلاً، وما تبعها من تأسيس للمحكمة الجنائية الدولية لاحقاً من أجل إعطاء المحاكمات المتعلقة بجرائم الحرب طابع الشمولية والديمومة والاستمرارية، يمثل في جوهره إجراء يحمل خلفيات سياسية بامتياز من حيث إنه يركز على النتائج ولا يبحث في الأسباب التي غالباً ما تجعل الأقوياء يعبثون بأمن المجتمعات والدول ويشنون الحروب الاستباقية من أجل الدفاع عن مصالحهم، الأمر الذي يؤدي إلى قلب منطق الأشياء ويفضي إلى محاكمة الحلقة الأضعف في سلاسل الحروب.
ومن الواضح أن تأسيس المحاكم الدولية منذ التسعينات إلى يومنا هذا، يأتي استجابة لمنطق الدول وليس لضرورات تتعلق بالمحافظة على السلم الدولي؛ حيث تذهب الأمم المتحدة في منشوراتها إلى أن المحاكم الجنائية الدولية هي ذات اختصاص تم إنشاؤه في سياق الأمم المتحدة من أجل التصدي للانتهاكات الفاضحة للقانون الدولي الإنساني، وهي مكلفة بتحديد ومعاقبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات؛ بيد أنه ونتيجة للطابع الانتقائي الذي يميز عمل هذه المحكمة، فقد ذهب أحد الرؤساء الأفارقة إلى القول بشأنها أنها باتت متخصصة في التحرش بالزعماء الأفارقة.
ونستطيع التنويه في هذا السياق إلى أن الانتقال من محاكمة الحروب إلى معاقبة الشعوب اعتماداً على تشريعات دولية متهافتة، قاد بشكل تدريجي إلى التفريط في السلم الدولي وسمح بانتشار ظاهرة الدول الافتراضية الناجمة عن هشاشة الدول القومية وضعف مؤسساتها، وأدى إلى تكوين جحافل من أمراء الحرب الذين يمثلون ظاهرة يعجز القانون الدولي عن التصدي لها. كما قاد ذلك إلى السكوت عن الجرائم التي ارتكبتها «إسرائيل» في فلسطين والولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان والعراق؛ حيث حوّلت واشنطن العراق بعد احتلالها له سنة 2003، من دولة مركزية مستقرة إلى دولة مهددة بالفشل.
ويفضي هذا التسيير الانتقائي وغير المتوازن للمحاكم الدولية ولتشريعاتها إلى إفلات القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة من المتابعة القانونية، وبخاصة أن واشنطن قد هددت بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية إذا قررت ملاحقة مواطنين أمريكيين؛ كما تؤدي هذه الوضعية في الأغلب إلى المساواة ما بين الضحية والجلاد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"