يوم “الكينونة” الوطنية

05:01 صباحا
قراءة 4 دقائق

يستحق يوم الاستقلال الوطني، وهو يوم إعلان قيام الاتحاد بين الإمارات، أن يكون يوم التقاويم كلها، إنه ليس مجرد نهار آخر، تنتهي طقوسه الاحتفائية مع غروب شمس ذلك النهار .

يوم الاستقلال الوطني والاتحاد، هو الاسم الحركي للكينونة الوطنية، والتي ظلت على مدى أكثر من قرن ونصف، تبحث عن ذاتها، وأسهمت ما سميت الحماية البريطانية في تعطيل طاقاتها، وإعاقة إمكانيات نموها، وتواصلها مع الذات ومع الخارج بحرية، وفرض عزلة سياسية وثقافية عليها، حتى صار من الصعب تحديد محاصيل الشقاء والتخلف والفاقة والحرمان .

وأكثر من ذلك، فإن هذه الحماية زرعت وسقت بذور نزاعات، وخلقت خطوطاً وهمية مائعة بين مكونات المنطقة، بهدف تمكين الحامي البريطاني من السيطرة على مواقع استراتيجية لمصالحه، ولخطوطه الحربية والتجارية .

وخلال أكثر من قرن، لم تشجع بريطانيا اجتماعاً عاماً لحكام الإمارات، وتذكر المؤرخة (روز ماري زحلان)، شقيقة الدكتور ادوارد سعيد في كتاب لها أن أول اجتماع مشترك لحكام الإمارات، لمناقشة وحل النزاعات الحدودية، جرى في عام ،1905 وتم - رغم معارضة بريطانيا - بدعوة من الشيخ زايد بن خليفة الملقب بالكبير، ولم يتكرر هذا الاجتماع مرة ثانية، إلا بعد حوالي نصف قرن، حينما تم إنشاء مجلس حكام الإمارات المتصالحة في عام ،1953 برئاسة المقيم السياسي البريطاني في دبي .

وقد جاء ذلك، تحت ضغط المتغيرات في الداخل والخارج .

إن ما يستحق التأمل، بعد مرور أربعة عقود وعام، على قيام الاتحاد، هو الكيفية التي تم خلالها تصنيع هذا الاتحاد، ونوعية الإرادة الوطنية الوثابة، التي نسجت خيوطه، وهي الخيوط التي كانت تتآكل وتتذرر وتهاجر، ثم تحولت إلى تكامل ودولة ومؤسسات، في فترة وجيزة غير مسبوقة بعيداً عن العنف والقهر، وسجلت حضوراً ساطعاً ونافعاً لأهلها ولغيرهم، على خريطتي الإقليم والعالم، وأحسنت تدبير التنوع والاختلاف، ونالت محبة غير مسبوقة بين الشعوب، ونجحت في بناء دولة الرفاه، بعد أن تمكنت من إخراج القطاع الأعظم من شعبها، من دائرة الحرمان والفقر والأمية، إلى دائرة الارتقاء بنوعية الحياة . ويسَّرت للفرد معدلاً للدخل، يعتبر من ضمن قائمة الدول العشر الأعلى في العالم، وغيَّرت معادلة متوسط العمر إلى نحو 78 عاماً بعد أن كان في الستينات نحو 58 عاماً، وفجرت طاقات وإمكانيات دفينة، وأحدثت تغييرات جذرية .

نستحضر هنا، وفي هذه الأيام، ذكرى قادة ونخب من الرواد المؤسسين لهذا الاتحاد، نترحم على من غادرنا منهم إلى دار البقاء، مستذكرين المغفور له بإذن الله الشيخ زايد وإخوانه ورفاق دربه في التأسيس والبناء، وكيف أبدع هؤلاء الرواد، وأحسنوا إدارة وتدبير الحكم، بدون سلطة قهرية وإنما من خلال تحقيق الرضا العام الذي يقول عنه المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، في الإمارات، شعور عام بالرضا على رئيس الدولة، أقوى منه في أي بلد عربي آخر .

نعم . . لا يستطيع الحاكم أو السلطان، مهما كانت سطوته، أن يكون محبوباً، وصاحب هيبة محترمة، إذا لم يكن محباً للناس، ويحافظ على حقوقهم، ويوسِّع خياراتهم، ويمكِّنهم، رجالاً ونساءً، من تحقيق تطلعاتهم الإنسانية ويؤمنهم من خوف ومن فاقه .

إن ولادة الاتحاد، كانت بمثابة اجتراح معجزة، في ظل أزمنة صعبة، وفي ظروف استثنائية، ومن غير تجربة دولاتية ومؤسساتية وإدارية وسياسية سابقة أو كوادر مؤهلة .

كانت كل الديناميِّات المتوفرة تدعو للطرح والقسمة والإحباط، ولا تُشجع على الجمع والأمل، فالرياح الإقليمية كانت سامة، وكانت لكل الرؤوس الإقليمية، وفي الضواحي القريبة حساباتها الخاصة، وانشغالاتها الذاتية . فمصر مثلاً كانت متوعكة بعد هزيمة حرب 1967 وموت عبدالناصر، وكان شاه إيران في أوج جبروته، وفاضت قوته على حساب الجغرافيا وحسن الجوار والمنطق والتاريخ .

وكانت المطامع والهواجس الحدودية في الإقليم، في قمة تأججها، إن على مستوى الداخل أو على مستوى المحيط، وفي شتى الاتجاهات .

وكانت كل إمارة في خندق متقابل، تعلو في بعضها هواجس المكانة والنفوذ والمصالح، وبعضها يحمل أعباء الماضي، بعد أن لعبت أهواء الحامي البريطاني على أوتار النزاعات زمناً طويلاً .

وكانت المنطقة تفتقد السلطة المركزية، القادرة على تنظيم الحقوق والشأن العام المشترك وبناء التقدم .

وباختصار، فإن تحولات عاصفة كانت في انتظار المنطقة، وكان المستقبل يبدو غامضاً، ويصيب الرؤية بالزوغان، وفي مثل هذه الأجواء المعقدة، والمحاصيل الهائلة من الشقاء والتخلف والفرقة، كان السؤال الصعب، في كيفية توفير مقومات الالتحام المجتمعي، والوئام الوطني، والانطلاق نحو النهوض، وتفعيل الإرادة الوطنية، لكي تحول هذه الصعاب إلى رافعة ومرتكز .

ولعل بداية الطريق، كانت في الاهتداء إلى شكل ومضمون التنظيم الدستوري والسياسي للسلطات في الإمارات، وهو تنظيم يختلف عن القوالب المعروفة في نظام تركيز السلطات ونظام الفصل بين السلطات، ويمزج ما بين النظام البرلماني والنظام الرئاسي، ويعطي لكل إمارة شيئاً من السلطات التي لا يختص بها الاتحاد .

أدرك المغفور له الشيخ زايد ذلك برؤيته الحكيمة، ومعه إخوانه من حكام الإمارات، مدعوماً بأشواق شعب يتطلع إلى الجمع والاتحاد، وبنخبة وطنية رائدة ملكت إرادة الحصول على تأشيرة دخول إلى المستقبل .

هل تدرك الأجيال الجديدة، المطالبة اليوم بعدم نسيان التراكم، أبعاد هذه المعجزة التي تمت؟

هل يدرك هذا الجيل الذي ولد مع ولادة الاتحاد، ويشكل اليوم أكثر من نصف مواطني هذه الدولة، كيف تم تعبيد الطريق، لكي يقطف الآن، هذه الثمار اليانعة، رفاهاً وتعليماً وصحة وسكناً وأمناً وتحديثا؟

ليس المطلوب، تقديم إيقونات تاريخية لنعجب بها، بل لتحريك الدماء، في شرايين الانتماء، والتربية على مسؤوليات المواطنة بشكل صحيح، من خلال التنمية السياسية، التي توفر الوعي الاجتماعي، والمناعة المستدامة والتفكير العقلاني، وتبلور هوية وطنية متماسكة في وجدان وسلوك الأجيال الطالعة .

مطلوب أن يتقدم الروائي والسينمائي والشاعر والباحث والمثقف وكاتب الدراما، لتناول تاريخ حركة هذا الوطن، في الماضي والحاضر، وإعادة تثمين قيمة الوطن، ليس كمورد رزق، بل كحياة ومصير وماضٍ وجذور وهوية وأحلام وطموحات وانتماء وتواصل مع الآخر المغاير .

مطلوب تنمية الحس بالتاريخ عند الأجيال الطالعة، وإلا فإنها تكون معرضة للاضطراب والتسطيح، ولانقطاع الوصل مع الذات والمكان والمستقبل .

في يوم الكينونة نستذكر من أسس وبنى، ومن رعى وواصل حمل الرسالة بمسؤولية، ونستحضر الإرادة والحكمة، وأشواق شعب صبر وكابد وعانى، وصار اليوم جزءاً من نظام الخير الاجتماعي الوطني العام . . وحارساً له، من أجل المستقبل .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"