سيناريو الطريق المسدود

06:03 صباحا
قراءة 6 دقائق

في المشهد العربي الراهن، هناك سيناريوهات، لا يرغب كثيرون في سماعها، يعرفها التاريخ، ويتعامل معها بمكر، وأحياناً بمكائد غير محسوبة .

بعضنا يقرأها بصوت خفيض، لكنه يعود بعدها من منتصف الطريق، لأنه لا يريد من أحد أن يذكره بما آلت إليه الحال .

أما الجيل الجديد الذي حفر في الحاضر عُشاً من أجل المستقبل، فقد صار يخشى أن يجهز على هذا العش، غراباً وحداة، فيأكل ما فيه من بيض الأمل ويمكث فيه .

قلة من أمتنا مدربة على قراءة سيناريوهات متعددة، لكن تظل الأغلبية محشوة في إطار سيناريوهات رغائبية فحسب، وهي سيناريوهات تجعلنا نقلق، لأنها غير مضاءة بالقدر الكافي، ولا تحدس المستقبل، ولا تفكر بقرع الأجراس قبل خراب البصرة والشام . . ولا تتنبأ بالسيناريو المسدود الطريق .

وفي هذا المقال، دعونا نفكر في مثل هذا السيناريو الذي قد تسير فيه ثلاث قضايا ساخنة للغاية، نعيشها اليوم وربما في المرحلة المنظورة المقبلة .

الأولى: منهج تعامل جماعات الإسلام السياسي المنظم، مع نشوة النصر، التي يشعرون بها في أكثر من مكان وفي مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا بخاصة، وفي معظم الشوارع العربية بعامة .

نعم، صحيح أنه صار من المتعذر عزل هذه الجماعات، محلياً ودولياً، لكن السؤال الجوهري هو: هل ستنجح هذه الجماعات في اختبارات التأهيل، والتكيف مع قيم الحداثة السياسية، ودفع الاستحقاقات الاجتهادية للمرور إلى الديمقراطية والمواطنة، واحترام قوانين التعددية، والابتعاد عن العنف، والاستناد إلى شرعية وطنية دستورية؟

هل سيكون هذا السيناريو سالكاً؟ أم أن هذه القوى مثلها مثل أغلبية الأحزاب العربية القائمة، ستظل تعزف على الأوتار القديمة، والخطاب القديم، من دون وعي بالمتغيرات التي عصفت بكل ما كان مدرجاً في قائمة بدهيات الخطاب السياسي العربي في العقود الخمسة الماضية؟

إن ممارسات وخطابات، وثقافات سادت، في ظل عقود طويلة من الحرمان والإلغاء والنفي والهجرة والعمل تحت الأرض (السري) ستشكل عوائق كثيرة أمام التأهيل والتكيف، وقد تدفع البعض باتجاه ملاذات مقلقة وملتبسة، تتسم بالانتهازية حيناً، وبخطاب مزدوج حيناً آخر، وهو خطاب مليء بالترخيم السياسي الجذاب، وشديد التعقيد والحساسية، إضافة إلى ما طالته مؤخراً من نبرة ثقة عالية، غير مبررة .

ها هي قوى الإسلام السياسي المنظمة تعود في هذه المرحلة، بعد غيبة، إلى الساحة السياسية، بعد أن انتظر بعضها متربصاً، ومتوجساً من الاصطدام مع وسائل السلطات الحكومية القوية، وقد جاءت هذه القوى مهرولة للحاق بهذا الحراك الشعبي التغييري، وبصوت عال، وبقدرة هائلة على التعبئة والحشد، وبقدر كبير من الدهاء السياسي، الذي تفضحه أحياناً ممارسات انتهازية وقنص للفرص . والسياسة كما هو معروف، ليست مسألة فرص متاحة وإنما لها قواعدها وشروطها .

هل تعلمنا درس مخاطر الإقصاء، لهذه القوى أو لغيرها، على المستقبل؟ هل تعلمنا درس صدام المذاهب وتداعياته الكارثية؟

وفي ظل هذه الأطر، نقف جميعاً أمام سيناريو حساس، واحتمالات انسداده كبيرة، ومعالجته بالحكمة مطلوبة، لأن ما يجري سوف يحدد مستقبل المنطقة العربية وشعوبها لأكثر من عقد قادم .

والثانية، منهج ساسة متعجلين، يحيطون أنفسهم بإضاءة إعلامية ساطعة، ويتطوعون لتسويق سيناريو انتقال مركزية القرار العربي، من المركز (المشرق العربي)، إلى أقصى الطرف الشرقي في منطقة الخليج والجزيرة العربية (وفي كل الأحوال، فإن أول من تنبأ بهذه الأطروحة، هو عبدالله بشارة إثر ولادة مجلس التعاون الخليجي في مطلع الثمانينات) .

ومن المؤكد، أن مركزية القرار العربي، عبر التاريخ لا تظل حبيسة الجغرافيا، وإنما تحكمها وتحركها الإرادة والرغبة والقدرة على الفعل والإبداع والمبادرة والتأثير، ولا تستمد مشروعيتها من فتاوى سياسية، أو ثقافة رغائبية وتحتاج دائماً إلى نصاب تاريخي وموروث فاعل وإنساني، وحمولة ثقافية عميقة، تنمو في باطن التاريخ وعلى سطحه، حتى تنال الاعتراف .

هل هذا السيناريو سالك؟

من المرجح أن لا يتم ذلك بيسر، أو من دون مضاعفات ومطبات، وقد يأخذ بعضها شكل الاشتباك الخشن مع أطراف عربية، أو غير عربية (إيران)، كما أن صعوبته تكمن أيضاً في ما ستؤول إليه الأوضاع التغييرية الجارية في مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا حيث تصهل الشعوب، بعد وصول شحنات هائلة، طال تأجيلها، من الوعي والدماء إلى أدمغة هذه الشعوب .

الأوضاع العربية متغيرة، ومن المرجح أن تتغير الموازين والمعادلات والتحالفات المرنة، في المشرق والمغرب في آن .

المشهد المتغير، يتحدى الخبرة ويتحدى المتوقع، ويدعونا لامتلاك الخيال السياسي ورصد تحولات المزاج الشعبي، وتقوية مناعة البيت العربي هنا وهناك .

إن النظرة الأعمق والأشمل، لا تتوقف عند سطح المشهد، وتتجاوز المقتربات السياسية التقليدية التي لا تصلح على الإطلاق لاستقراء المشهد العربي المتطور .

والثالثة: سيناريو سوريا، المطروح في سياقات سجالية ودموية في آن، والذي يتطلب مقتربات أخرى، وقدراً كبيراً من الخيال السياسي، الذي لا يسترضي الرغائب .

يقول هذا السيناريو، إن النظام عاجز تماماً عن حسم الموقف بواسطة الحل الأمني والعسكري، كما أن المعارضة أو المعارضات بكل مستوياتها وألوانها، عاجزة أيضاً عن إسقاط النظام، وبين العجزين من المحتمل أن تفلت من عقالها حرب أهلية (منخفضة الوتيرة)، وفوضى وثارات .

من ناحية أخرى، فإن الغرب نفسه منقسم حول طريقة التدويل، فضلاً عن كون هذا الغرب غارق في أزمات اقتصادية خطيرة، وبعضه متورط في أوحال عسكرية معقدة ومكلفة في أفغانستان والعراق، ومنافذ جديدة للقاعدة، في حواف وضواحي دول إفريقية، وبخاصة بعد تسرب أسلحة ليبية إليها .

ويبدو أن التدخل العسكري الغربي، يقع في حكم المستبعد لأسباب موضوعية، وأخرى ذات صلة بالوضع الجيوسياسي السوري، والخشية من احتمالات عالية في توسيع دائرة الاشتباكات، والمناوشات، بحيث تتجاوز القطر السوري نفسه .

تركيا، من جانب آخر، وبخطابها الخشن تجاه النظام السوري، والموجه في الأساس نحو الناخب التركي، ومغازلة النظم الشعبوية العربية الصاعدة، لا تستطيع ترجمة هذا الخطاب على أرض الواقع، لأسباب عسكرية، وأخرى ذات صلة بكتلة كبيرة من العلويين الأتراك (أكثر من 13 مليوناً)، في الشارع والجيش، وفي الاسكندرون وغيرها .

والمعارضة الخارجية والحراك الداخلي، لا يستطيعان إنشاء توازن سوري جديد، وأقصى ما يقدمانه، ضغوط على النظام، لتقديم إصلاحات جادة، وفواتير أخرى، يحاول النظام تقليل حجمها .

إن أكتاف المعارضة، في شكلها الحالي، غير قادرة على تطوير شعار إسقاط النظام، وبخاصة أن بحرها العربي الرسمي الذي تسبح فيه، غير متحمس كثيراً، لتوسيع دائرة وتداعيات الربيع العربي، أكثر مما توسع حتى الآن .

وفي الداخل، فإن للنظام السوري، امتدادات اجتماعية في أوساط الطائفة السنية، والمجمع الصناعي/التجاري السوري .

كما أن حزب الله، الذي يتحكم الآن في مفاصل الدولة اللبنانية، ويملك ساحة شعبية منظمة وواسعة، وقدرات تسليحية غير مسبوقة، يرى في النظام السوري الرئة التي يتنفس من خلالها، ومستعد للإقدام على خيارات صعبة ومؤلمة للإبقاء على هذه الرئة .

يبقى الموقف الداعم للنظام، من قبل روسيا، الصين، العراق، إيران ودول في أمريكا اللاتينية، ولهذا الدعم أبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية، ويستطيع النظام السوري أن ينام باستغراق، ومن دون كوابيس، بعد أن ضمن ببوليصة التأمين هذه، نفطاً وغازاً ومالاً ونوافذ وملاذات .

في الخلاصة، أن هذا السيناريو يبدو للوهلة الأولى، مجرد جملة معترضة في سياق سياسي متشابك الخيوط، لكن من المتوقع أن يصبح المتن .

إن الخيوط المتشابكة في هذا السيناريو، تبدأ من زمن سابق لما يسمى بالربيع العربي، حينما كان، ومازال، يتمحور - عربياً ودولياً - حول إضعاف التمدد الإيراني الإقليمي أو مواجهته في القوس السياسي (والمذهبي في أجزاء منه) الممتد من طهران إلى بغداد ودمشق وجنوب لبنان، وجيوب أخرى في الخليج وشبه الجزيرة العربية .

وتبدو اليوم هذه الخيوط المتشابكة أكثر سطوعاً وحضوراً في الأزمة السورية، وهي نواة هذا القوس السياسي المتحالف، وفيه من البراغماتية، والمناورة المرنة الشيء الكثير .

ويبدو السيناريو ذو الطريق المسدود، من خلال استبعاد التدخل العسكري الخارجي إن كان في سوريا أو كان في إيران، لتعقيدات الأوضاع في هذين البلدين، فضلاً عن إخفاقات المتدخلين (المفترضين) في الشرق الأوسط، وتعقد الأوضاع الاقتصادية والموازين الإقليمية والدولية .

يبقى سيناريو الحرب الأهلية، ونموذجها حمص في الراهن، وهو سيناريو مفتوح، كبديل عن سيناريو مسدود يتمثل في الحرب على إيران والتدخل العسكري في سوريا .

إن أصحاب النوايا الطيبة في المبادرة العربية الخاصة بسوريا مطالبون بانجاحها، وربما بتطويرها، مضموناً وآليات، بعيداً عن حافة الهاوية والأوتار المشدودة، وأشباح الحرب الأهلية، وقبل أن تمضي آلة العنف المفرط إلى نهاياتها الكارثية . الاستدراك ممكن وضروري .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"