مواسم الحصاد

02:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
أدركت دولة الإمارات أهمية القراءة في بناء شخصية مستدامة في المجتمع، وأطلقت في سبيل تحقيق هذا الهدف مبادرات جريئة ومختلفة حظيت بمتابعة مستمرة من قبل القيادة الرشيدة في الدولة، وتم تسليط الضوء عليها عبر وسائل الإعلام المختلفة، يأتي هذا الاهتمام إيماناً بالدور المثمر الذي تغرسه القراءة في العقول، فضلاً عن أن إهمال القراءة يؤدي إلى خلق جيل متأثر بما تقدمه وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من وجبات سريعة للثقافة العامة لا تغني عن قراءة كتاب، بالإضافة إلى أنها تقدّم معلومات في كثير من الأحيان تفتقر إلى الدقة والمصداقية وتؤدي بعد ذلك إلى قطيعة مع الكتاب تكبر مع الزمن، مما يولد أجيالاً تعتمد على السرعة التي تؤدي بهم إلى ضعف القدرة على التأمل والبحث والخلق والابتكار والاتكاء على نتاج الغير والاكتفاء بما قدمه من سبق، والركون إلى الخمول الذي يدخل الإنسان في طرق مظلمة تبقيه حبيس الماضي، وتلقيه في دروب الجهل.
وقد سعدت كثيراً حين طلب مني أحد الشباب الواثقين من قدراتهم والمتسلحين بالمعرفة، أحد كتبي لعمل دراسة عنه، وقال إنه لا يمكن أن يعوّل على الكتب المنشورة عبر وسائل الإنترنت والتواصل الاجتماعي على الرغم من أهميتها، لأنه يرى أن الاقتراب من الكتاب هو دخول إلى بيت صاحبه والتعرف إليه عن قرب ومؤانسة نتاجه للوصول إلى رؤية واضحة قبل الولوج إلى عوالم الكتابة، من هنا أدركت أن في هذه الأمة خيراً كثيراً، وأن هناك فئة من الشباب لا تزال تحفظ العهد مع الكتب وترتبط بمودة مع القراءة وتؤمن بأن القراءة هي الزاد الحقيقي للروح، فالتواصل مع الكتب يرفع من رصيد المعرفة، ويمنحها ثراء كبيراً، ويوسّع المدارك ويكسبها لياقة تستطيع من خلالها أن تشق طريقها نحو العلم وهي تحمل ضوءاً يمهد لها الدرب ويمنحها رؤية صافية، ولا غرابة في من قال «قل لي ماذا تقرأ.. أقل لك من أنت»، لأن القراءة الواعية تسهم بشكل واضح وكبير في بناء شخصية الفرد التي على أساسها يتعامل مع من حوله وما حوله.
ولذلك فمن الأهمية بمكان أن يختار الإنسان ما يقرأ من الكتب، وأن يعرف احتياج روحه وفكره، وأن يخصص لهذا وقتاً كافياً، ويصبر على الكتب وسطورها، وعلى الأبواب وفصولها، وينهل من معينها بالقدر الذي يساعده على ملء جوانب روحه بطاقات معرفية مختلفة ليقلده العلم مكانة رفيعة بين الناس، فالعلم في المجتمع سراج يضيء عتمات الحياة، ويمنحها القدرة على التمييز بين ما هو نافع وما هو ضار، ولهذا فإن القراءة مغامرة مع الجمال، تكبر مع الوقت، وتؤتي أكلها إذا عرف الإنسان الطريقة التي تجعلها تنمو في ذاته بحيث تعهدها بتغذيتها في كل وقت بما هو نافع.

القراءة هي الغذاء الذي يساعد أغصان المعرفة على النمو مع الوقت حتى تصل إلى مواسم الحصاد، وليست هذه المهمة بالسهلة إن لم تتعود النفس عليها في سن مبكرة، فمراحل الطفولة هي الأهم في عملية التعود على ملازمة الكتاب وجعله صديقاً خليلاً مرافقاً للروح في حلها وأسفارها وحول هذا يقول المتنبي:

أعزّ مكانٍ في الدّنى سرجُ سابح

وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

إن الجيل الحالي في حاجة إلى أن يعي أن الوسائل الجاهزة والسريعة للحصول على المعلومة لها إيجابياتها مثلما لها سلبياتها، وهي لا تغني إطلاقاً عن الرجوع إلى الكتب، ففي بطونها تسكن المعلومة كما أرادها كاتبها، ثم إن القراءة تمنح للمعلومة قيمة كبيرة، مما يجعلها ترسخ في الذاكرة أكثر مما لو تم الحصول عليها دون تعب.

محمد عبدالله البريكي
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"