أسرة محمد علي.. والتاريخ

02:44 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. مصطفى الفقي

إن إعادة قراءة تاريخ مصر الحديث من منظور ما يجري من أحداث راهنة، تعتبر كاشفة لكثير مما يدور حولنا ومجيبة عن بعض التساؤلات المطروحة، وفي مقدمتها لماذا استهداف مصر ومصر تحديدًا؟ فالتاريخ القريب يوضح لنا أن مصر دولة عمدة في الشرق الأوسط، ومن الطبيعي أن يكون هناك شعور بالاهتمام بها، ومحاولة السيطرة على سياساتها والضغط بكل الطرق لتحجيم دورها، خصوصًا أنه ليس المطلوب لها السقوط الكامل، ولكن أيضاً من غير المقبول لها التحليق إلى أعلى بشكل ملحوظ، لأن ذلك يعني لدى معظم القوى الدولية والإقليمية أن مصر سوف تمد ذراعيها شرقاً وغرباً وجنوباً، حيث يلوح شبح محمد علي ونفوذه العسكري والسياسي في إمبراطورية مصرية لم يتم انكماشها إلا بتكتل أوروبي- عثماني تجسد في بنود اتفاقية لندن عام 1840.

كما قد يتراءى للبعض أحياناً خيالات وهمية تؤدي إلى تجدد المخاوف من عصر عبد الناصر عندما أطلق دعوته القومية، فتحركت الوديان والسهول وملأت صيحاته الدنيا وشغلت الناس، لأنها كانت حركة تحررية ارتبطت بمرحلة تصفية الاستعمار وتأكيد حرية الشعوب واستقلالها. بل إن شبح عبد الناصر يطارد الكثيرين حتى أن البعض حاول أن يصوّر وصول السيسي إلى السلطة وكأنه إعادة لسيناريو عام 1952.
والواقع أن الأمر مختلف عن ذلك جد الاختلاف، ومن غير المنطقي ولا العادل أن يكون هناك تحليل بهذه الطريقة، فلكل عصر ظروفه ورموزه وسياساته، ومن العبث تقييم فترات تاريخية قياساً على الحاضر، كما أنه من العسير قبول حقيقة أن التاريخ يعيد نفسه بشكل متطابق، فالدنيا تتغير والأفكار تتطور والبشر يرحلون.
ما يهم هنا أن أعطي للأسرة العلوية مقامها الحقيقي في التاريخ الحديث للمنطقة، وكيف أن أيلولة العرش العثماني كان يمكن أن تؤول إلى أحفاد محمد علي، وتصبح القاهرة هي مقر الخلافة، ولست هنا بصدد تقييم ذلك سلباً أو إيجاباً، ولكن من المؤكد أن مسار الأحداث كان قد تغير رغم أن مقاومة فكرية كاسحة بدأت على امتداد العالم الإسلامي من الهند إلى لندن تعقد مؤتمرات حول موضوع الخلافة. والذي يتابع (مراسلات مكماهون) من القاهرة مع الشريف حسين، سوف يكتشف أن البريطانيين كانت لديهم صياغات متعددة، ولكنهم كانوا يبحثون بين كل الخيارات عن أفضلها لهم، هم وحلفاؤها الغربيون بما في ذلك خيار إسقاط فكرة الخلافة والتخلص منها إلى الأبد، على اعتبار أن (سايكس- بيكو) قد أصبحت بديلاً للخلافة العثمانية الواحدة، كما أن إرهاصات ميلاد الدولة العبرية، كانت هي الأخرى عاملاً فعالاً في تقزيم الفكرة ، على اعتبار أن زوالها يفتح الباب لإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو ما بشّر به وعد وزير الخارجية البريطانية (بلفور) في 2 نوفمبر عام 1917. ولعلي اعتبر كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) إحدى الضربات القاصمة التي وجهها عالم أزهري لطموحات فؤاد الأول في وراثة العرش العثماني، وهكذا نجد أن اقتراب أسرة محمد علي من كرسي الخلافة كانت أمراً مطروحاً، ولكن الظروف الدولية والإقليمية بل والمصرية لم تكن مواتية، وأضيفَ عامل آخر وهو ميلاد جماعة الإخوان المسلمين على يد الشيخ حسن البنا في مدينة الإسماعيلية التي كانت تتركز بعض مظاهر الوجود الأجنبي فيها عام 1928، ولا بد أن ندرك هنا أنه كانت لدى أسرة محمد علي مقومات تسمح بوراثة الخلافة ، ولكن الخوف من الدور المصري والقلق من شبح دولة محمد علي كانا حائط سد يحولان دون ذلك، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الثلاث الآتية:
أولًا: إن أسرة محمد علي لم تنل حظها من الدراسة، رغم كثرة ما كتب عنها وما سجله المؤرخون حولها، لأن الذين كتبوا عنها كانوا معاصرين لأحداثها، وحكمتهم أهواء فيما يكتبون، خصوصاً أن المادة المتاحة لم تكن متوفرة في أيديهم، ولكن الذي يغوص في أعماق الوثائق البريطانية سوف يكتشف أن هناك وجهات نظر أخرى، كانت تعتمد على معلومات غير معلنة في وقتها.
ثانيًا: لم تكن أسرة محمد علي بذلك السوء الذي صوّرته بعض الكتابات بعد عام 1952، كذلك لم تكن بذلك البريق الذي تحمّس له البعض الآخر، نكاية في العصر الناصري وثورة 23 يوليو بما لها وما عليها. وأنا أطالب هنا مرة أخرى بضرورة وجود كتب وثائقية عن حكام مصر في العصر الحديث، يجري إعدادها بموضوعية كاملة وفي حياد تاريخي لا يخضع لمؤثرات غير علمية، حتى تكون لنا ذاكرة وطنية صحيحة يمكن أن نعتمد عليها وأن ننطلق منها.

ثالثًا: لقد آن الأوان للكشف عن كواليس الحياة السياسية في بعض المراحل،، ونسحب شيئاً من المغالاة التي استغرقنا فيها مديحاً في البعض الآخر، ولو تأملنا ما يجري حولنا الآن لوجدنا أن مصر قد عرفت مثيلاً له من قبل، ولكنها تظل دائمًا واقفة كالنخيل الباسقات.
تحية لكل حاكم وطني في تاريخ هذا البلد الذي علّم الدنيا وصنع الحضارات وأطلق نفير التنوير منذ قرون عدّة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"