اليمين المتطرف في مجلس الشيوخ الفرنسي

05:08 صباحا
قراءة 4 دقائق
إزاء الفشل الذي يتخبط فيه اليسار واليمين الفرنسيان على حد سواء، يبدو أن اليمين المتطرف المتمثل خصوصاً في الجبهة الوطنية التي تقودها مارين لوبان، ابنة جان-ماري لوبان الزعيم الشعبوي السابق لهذه الجبهة، يحقق تقدماً ملحوظاً من انتخابات الى أخرى . ففي الانتخابات البلدية الماضية، في مارس/آذار المنصرم وبعدها الانتخابات الأوروبية في مايو/أيار، حقق هذا اليمين خرقاً تاريخياً، إذ وصل عدد البلديات التي سيطر عليها إلى أكثر من عشرة في المئة، ومنها بلديات مدن كبرى كانت معاقل تاريخية لأحزاب يسارية أو يمينية تقليدية، ليصبح الحزب الثالث بعد الحزبين اللذين يتناوبان على السلطة . وفي الانتخابات الأوروبية أحرز تقدماً جديداً، واللافت أن كل الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا حققت بالتوازي التقدم نفسه لتصبح مؤثرة في القرار الأوروبي، الأمر الذي دق أجراس إنذار في الأوساط السياسية والثقافية وتلك الناشطة في مجال حقوق الإنسان .
في انتخابات مجلس الشيوخ، الشهر المنصرم، تأكد تقدم هذه الجبهة التي تمكنت من إحداث خرق تاريخي، إذ أضحى لها ممثلان في هذا المجلس، وهو أمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة . وقد علقت مارين لوبان على هذا الفوز التاريخي بالقول إنه دليل على "ديناميتنا التي تتسارع من انتخاب إلى انتخاب، حتى في الانتخابات الأكثر صعوبة، مثل انتخابات مجلس الشيوخ . لم يعد هناك من مجلس واحد ممنوع علينا . لم يعد هناك مجلس واحد ليس فيه وطنيون يدافعون عن فرنسا . موعدنا مع انتصارات جديدة في الانتخابات المحلية والاقليمية في عام 2015" .
ولفتت لوبان إلى أن مرشحها الذي فاز بمقعد في مجلس الشيوخ دافيد راشلين عمره ستة وعشرون عاماً، أي الأصغر سناً في تاريخ هذا المجلس، وذلك بعد أن كانت النائبة عن هذه الجبهة ماريون ماريشال - لوبان قد انتخبت في مجلس النواب، في عام ،2012 عن عمر يبلغ اثنين وعشرين عاماً أي الأصغر سناً في تاريخ هذا المجلس، الأمر الذي يؤكد رهان الجبهة على الشباب .
أما عما سيفعله هذان النائبان المتطرفان اللذان سيعيشان في عزلة في مجلس الشيوخ فأجابت لوبان بأنهما سيضعان الإصبع على مواضع الألم وسيفرضان نقاشات غير موجودة وسيعملان على التصدي لمحاولات اليمين واليسار الفتح الكامل للحدود الفرنسية أمام الوافدين .
وإذا كانت الانتخابات التشريعية والبلدية والرئاسية تجري بالاقتراع الشعبي العام، فإن المقترعين في انتخابات مجلس الشيوخ هم ما يسمون ب"الناخبين الكبار" أي أعضاء ورؤساء المجالس البلدية والإقليمية المنتَخَبين، ما يعني أن الخريطة الحزبية لمجلس الشيوخ تكون معروفة سلفاً على وجه التقريب . وبما أن حزب "الاتحاد من أجل أغلبية شعبية" الذي كان يتزعمه ساركوزي، هو الذي فاز في الانتخابات البلدية الماضية، فكان من المؤكد أن رئيس مجلس الشيوخ سيأتي من صفوفه، وهذا ما حصل . لكن المفاجأة كانت دخول الجبهة المتطرفة إلى المجلس . فماذا حصل؟
الذي حصل هو أن ناخبين من اليسار واليمين التقليديين صوتوا لليمين المتطرف فقط، نكاية برفاق لهم في الحزب نفسه، وآخرون من المستقلين ذهبت أصواتهم إلى هذا اليمين الذي نجح، على ما يبدو، في إقناع بعض المترددين، مايعني بأن أطروحاته الشعبوية باتت أكثر من أي وقت مضى مسموعة في صفوف النخب المؤثرة . بالطبع فإن الفساد والفضائح المالية والعاطفية والعجز عن تحقيق الحد الأدنى من الوعود الانتخابية، مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في عهدي الرئيسين اليميني السابق ساركوزي والاشتراكي الحالي هولاند، كل ذلك يساهم في تقدم الجبهة الوطنية المتطرفة، والتي لم يعد من المستبعد أن تحقق مفاجأة في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام ،2017 فكل استطلاعات الرأي تدل على أن مارين لوبان قد تتغلب على فرانسوا هولاند إذا انحصرت المنافسة بينهما في الانتخابات الرئاسية .
لكن الحقيقة أن الحكم شيء والمعارضة شيء آخر مختلف تماماً . فمن السهولة بمكان انتقاد الآخرين عندما لا نكون في موقع المسؤولية، وصياغة الخطابات الشعبوية أسهل بكثير من تطبيق البرامج الانتخابية، لاسيما في وجود أزمة اقتصادية عالمية وتراكم للمشكلات المستعصية منذ سنوات طوال .
من جهة أخرى، فقد دلت التجربة على أن الجبهة الوطنية ليست أقل فساداً من الآخرين . فتجربتها في البلديات التي تحكمها منذ أشهر قليلة تشي بالكثير عن طبيعتها الاقصائية والاستعلائية، وعن قدراتها الإدارية المتواضعة . فقد تم عزل الكثير من المستشارين والأعضاء في المجالس البلدية بسبب أفكارهم ومعتقداتهم، كما تم إلغاء المساعدات التي كانت تقدم منذ وقت طويل إلى العائلات المحرومة، ناهيك بفضائح شخصية ومالية وغيرها طالت عدداً من رؤساد المجالس البلدية من اليمين المتطرف . عدا ذلك يفتقر هذا اليمين الى حاضنة شعبية وشبكات من المحبذين والمناصرين، تجعله قادراً على الحكم في حال وصوله إلى السلطة . وإن وصل فإن الفشل المدوي هو ما ينتظره وفي وقت سريع، كما يقول أحد كبار كوادره في تعليق له على تصريح لمارين لوبان عن جاهزيتها للوصول إلى الأليزيه .


د .غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"