في التأخر العربي

04:32 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

ركّز مفكرو النهضة العربية منذ نهاية الربع الأول من القرن العشرين على قضية التأخر، وطرحوها عبر صيغة استفهامية وضعت الذات مقابل الآخر، فكان السؤال المركزي: لماذا تأخرنا نحن في الوقت الذي تقدّم فيه الغرب؟، لكن المشكلة التي برزت لاحقاً، وخلال العقود التالية، كانت في محاولة الإجابة عن سؤال: من نحن؟، إذ تباينت طروحات المفكرين حول ماهية الذات، فقد تمّ في معظم الأحيان تغليب عنصر على سواه من العناصر، حيث تبلورت أيديولوجيات محددة، عكست نظرة قاصرة إلى الهوية، كونها اعتمدت على التاريخ وحمولاته، بكل معضلات التاريخ وضبابية المعرفة به، لتقدم إجابات ناجزة.
ذهب جلّ الجهد الأيديولوجي لدى القوميين العرب في عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم للدفاع عن الذات، في صفتها القومية، ولجعل هذه الذات محوراً لمشروع نهضوي شامل، ولقد غيّب هذا الجهد الأيديولوجي، وما تفرّع عنه من معارك، الكثير من القضايا الأخرى، بل وجعلها تبدو بلا أهمية، مقارنة بالقضية الأساس: القضية القومية، وكأنه يمكن إحداث فصل تعسفي بين القضية القومية والقضايا الأخرى.
القفز من المسألة الوطنية إلى المسألة القومية في سياق رومانسي يفتقر إلى المعرفة كان مكلّفاً، بل إن القفز عن سياق تطور الدولة القومية الأوروبية نفسه، ومحاولة وضع المشروع القومي على سكة مختلفة، سندها التاريخ واللغة والدين بدرجة أقل، غيّب أشكالا أخرى من النضال لا غنى عنها في سياق تطور الدولة القومية نفسها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تمّ الاستهزاء بمكانة النضال من أجل الديمقراطية في إطار المشروع القومي، بل تمّ اعتبار أن أي نضال في سبيل قضية أخرى غير المشروع القومي بمثابة التشويش على المشروع الأساس، أي المشروع القومي.
لقد وضعت القضية الأساس، أو القضية المركزية، وبصيغها المختلفة، ومنها الصراع المركزي مع «إسرائيل»، كنقيض لأي قضية أخرى، وقد ركبت الطبقات السياسية على هذه الحالة، من أجل جعل نفسها وصية على المشروع القومي، لكن الغاية الأساسية كانت إدامة وجودها في هرم السلطة السياسية، وقد تحوّل بذلك المشروع القومي الذي يفترض أنه مشروع نهضوي إلى مشروع تبرير للسلطات السياسية، التي أمسكت بكل تناقضات الاقتصاد والمجتمع، في محاولة لضبطها ومنعها من الانفجار.
ومنذ سبعينات القرن الماضي، وفي ظل غياب مناخ سياسي ديمقراطي، واشتداد القبضة الأمنية في الأنظمة «القومية» العربية، تركّز تحليل التأخر العربي على المسألة الاقتصادية، وأخذ التحليل الاقتصادي الصرف يحل محل الاقتصاد السياسي من جهة، ويعيق تحليل البنية العربية بكليتها من جهة أخرى، وقد صرف هذا التوجه الانتباه بشكل كبير عن قراءة مستويات التأخر المختلفة، وبرزت على ساحة السجال الفكري والسياسي الكثير من الصراعات غير المنتجة، وخلق ثنائيات تخفي أكثر مما تظهر وقائع حالة التأخر العربي، ومن تلك السجالات قضية الأصالة والمعاصرة، والتي بقيت بعيدة كل البعد عن أي سياق اجتماعي أو حوامل سياسية.
النظرتان الاقتصادية والثقافية للتأخر العربي كانتا مريحتين للأنظمة العربية، فالأولى تختزل الواقع الاقتصادي إلى هوّة في الإنتاج بيننا وبين الغرب، كما تضع الكثير من اللوم على الغرب الذي لا يسمح، وفقاً لهذه النظرة، بتطوير العرب لاقتصاد متطور، وبالتالي تحرر النخب الحاكمة من مسؤولياتها تجاه المجتمع والاقتصاد، أما النظرة الثقافية فتجعل من التأخر قضية ثقافية، معزولة عن سياقها السياسي، وهذه النظرة التي تقارب الاستشراق في بعض المواضع تجعل من الذات «العربية» عصية عن إدراك أسباب التطور.
وبعد ما يقارب القرن على طرح السؤال المركزي حول واقع التأخر العربي، فإن تحديات هذا الواقع نفسه قد تغيّرت، فسؤال التأخر كان قد ولد بداية في سياق المواجهة المباشرة وغير المباشرة مع الغرب، خصوصاً في مرحلة الانتدابات الغربية، حيث كان التحرر من الهيمنة الاستعمارية الهمّ الرئيس للنخب الفكرية والسياسية، وفي ظل بلورة الدولة الوطنية العربية، لكن سؤال التأخر العربي اليوم لا يمكن أن يغيب عنه واقع تحوّل عدد من الدول العربية إلى دول فاشلة، وهي الدول التي حكمتها نخب «قومية»، وعودة أشكال وصيغ مختلفة من الاستعمار. ومن سخرية القدر العربي أن حركات ما يسمى «الربيع العربي» التي يفترض أنها حركات مضادة للدكتاتورية، ولكلّ ما تمثله من نقيض للديمقراطية، ومسؤولية عن التأخر الاقتصادي والاجتماعي، بأنها حملت إلى الواجهة حركات لا تقلّ استبداداً، بل ورفضاً للديمقراطية، ومنقطعة الصلة بالحداثة، ولا تحمل أي مشروع نهضوي اقتصادي، وتحتكم للعنف بأبشع أشكاله من أجل التغيير. هل يمكن القول إن التأخر العربي بكل محمولاته قد كشف عن زيف الأسئلة، وعن زيف الإجابات، وزيف النخب التي تصدّت لمشروع النهضة؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"