تونس ودول أخرى

05:56 صباحا
قراءة 4 دقائق

قبل أيام فاجأ الرئيس التونسي المنصف المرزوقي الكثيرين، بتحذيره من ثورة ثانية قد تقع في بلاده . وقد عزا تحذيره هذا إلى إخفاق الثورة على نظام بن علي في وضع حد للاستبداد، ووضع حلّ للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية . يبدو أن قدر المرزوقي وهو طبيب وناشط سياسي، أن يظل في موقع المعارضة حتى حين يصبح رئيساً .

وإذ أخذ المرزوقي على العهد الثوري في بلد أبي القاسم الشابي ما أخذه، فمن المفارقات أن مآخذ من هذا القبيل سجّلها نواب في كتلة المؤتمر من أجل الجمهوية على وزراء الحزب في حكومة حمادي الجبالي، فكان أن استقال هؤلاء وعددهم 12 نائباً من الحزب الذي يقوده المرزوقي، وشكلوا تجمعا سياسيا جديداً باسم الوفاء للثورة في مايو/ أيار الماضي، وكانت الشرارة التي أطلقت هذا الانشقاق تسليم السلطات التونسية محمود البغدادي رئيس الحكومة الليبية السابق إلى السلطة الليبية الجديدة، علماً أن المرزوقي وقف ضد تسليم البغدادي، وذلك لعدم الاطمئنان إلى سير العدالة في ليبيا التي مازالت تعيش وضعا انتقالياً .

في واقع الأمر أن الخلافات في صفوف الائتلاف الحاكم تدور حول صيغة النظام السياسي الجديد . حزب النهضة الذي يتمتع بأغلبية مريحة، يصر على نظام برلماني كامل تنبثق منه الحكومة ويتم في مجلس النواب انتخاب رئيس الجمهورية، بينما يدعو الفريقان الآخران التكتل الديمقراطي والمؤتمر من أجل الجمهورية إلى نظام برلماني معدل أو رئاسي معدل يتم من خلاله انتخاب رئيس الدولة بالاقتراع الشعبي المباشر . والحجة في ذلك أن ظروف تونس تستلزم نظاماً دستورياً مرناً تتعدد فيه قنوات اختيار ممثلي الشعب ومسؤوليه . النهضة تريد البناء والتأسيس على وضع آني قائم تتمتع فيه بالأغلبية النيابية (89 مقعداً)، ومع ذلك فإن للنهضة حجتها أيضاً وهو أن النظام البرلماني على الطريقة البريطانية هو الأكثر وفاء للمقتضيات الديمقراطية، وتتمسك النهضة بالتزامها بإجراء انتخابات نيابية في مارس/ آذار 2013 من دون التقيد بمعطيات الوضع الآني .

يثق المرء بأن التفاعلات البناءة بين القوى السياسية والاجتماعية، من شأنها أن تؤدي إلى بلورة نظام جديد ديمقراطي حقاً وعصري ويحفظ الهوية الوطنية والاجتماعية . تفاعلات كهذه جرت وتجري في مصر، فقد فاز مرشح الإخوان المسلمين بالرئاسة، لكن الرئيس محمد مرسي مقيد حُكماً وواقعاً بالمقاصد المباشرة والبعيدة لثورة 25 يناير التي فجرتها قوى شبابية حية غير حزبية .هناك تجاذبات شديدة وتدافع سياسي لا تخطئه العين، غير أن هذه هي ضريبة لا بد من أدائها من أجل الانتقال الكامل إلى عهد جديد . أما في ليبيا البلد المحافظ فلم يفز الإسلاميون، ربما لأن البداوة والقبلية التي ترفض التأطير الجماعي والانغلاق الأيديولوجي، منعت الإسلاميين من تسيّد المشهد السياسي، وأفسحت أمام أوسع ائتلاف شعبي وسياسي واجتماعي الفوز في هذا البلد .

في تونس كما ليبيا ومصر، فإن التفاعلات السياسية البناءة والتقدم على طريق التمثيل النيابي النزيه، وأخذ التعددية الاجتماعية والثقافية في الاعتبار لدى وضع دستور جديد، كل ذلك يقود إلى بناء دولة جديدة ولو بالتدريج، ومن نقطة الصفر كحال ليبيا التي تركها حاكمها السابق قاعاً صفصفاً .

ولا ريب أن المرزوقي لم يكن يعني ما قاله بصورة حرفية عن التحذير من ثورة جديدة، فالمقصود قياساً إلى جملة مواقفه هو أن تمضي الثورة نحو تحقيق أهدافها، وألا تأخذ النشوة بألباب الحاكمين الجدد، بما يصرفهم عن الإصغاء إلى معاناة شعبهم، وبما يجعل نوازع الاحتكار السياسي والإقصاء تستحوذ على مناحي تفكيرهم . إنه لتصحيح من داخل الثورة نفسها، والنظام الصالح الذي يحق له الفخر بأنه يمثل شعبه، هو من يمتلك آليات ذاتية للتصحيح والتصويب متى ما وقعت أخطاء وتجاوزات .

لقد حذر المتطيرون من الربيع العربي من وقوع فوضى عارمة هنا وهناك وهذا لم يحدث، وذلك بفضل الشعور بالمسؤولية السياسية والوطنية . وحذروا من تسلل القاعدة وهذا لم يحدث أيضاً، باستثناء اليمن حيث كان هذا التنظيم حاضراً إبان عهد علي صالح . وفي تونس ردد زعماء النهضة بأنه لا وجود لهذا التنظيم في بلدهم ولن يكون له وجود، علماً أن التهاون في التعامل مع التجاوزات الجسيمة لجموع السلفيين خصوم الدولة المدنية والتنوع الاجتماعي والثقافي، يوفر بيئة لازدهار التطرف وتفشيه في مفاصل المجتمع . كما أن محاباة فئات بعينها في المجتمع لأسباب انتخابية، من شأنه تسميم الحياة العامة، وهو ما دفع بوزير المالية حسين الديماسي إلى الاستقالة قبل أيام، لرفضه رصد ميزانية ضخمة لمصلحة أعضاء النهضة لذين أضيروا في عهد ابن علي، وحيث رأى الوزير المستقيل أن الأمر لا يتعلق فقط بالعسف الذي تعرض له هؤلاء، بل يتصل بمكافأتهم على تصعيد النهضة إلى سدة الحكم في الانتخابات، بما يفوق القدرات المالية للدولة، وبما يتعارض مع أولويات الإنفاق العام .

على هذا النحو تجري التفاعلات في بيئة سياسية مفتوحة وحريات إعلامية لا سابق لها، سواء في تونس أو ليبيا ومصر واليمن، ما يجعل المرء على درجة من التفاؤل مصحوبة بالحذر الشديد من لجوء بعض الضحايا إلى تقليد جلاديهم، وإعادة إنتاج نظام استبدادي مع اختلاف في الشعارات وفي وجوه أهل الحكم .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"